حال وصوله الشارع شعر ببعض الأمان،فأراد أن يودع مقر عمله الذي غادره مع ذكريات ما تزال عالقة في رأسه،ففي هذه الشركة تعرف على لذة العمل وحب الحياة من خلال المرأة التي أحبها وتزوجها ورزق منها طفله،كان عائم وسط أمواج الماضي حين سمع صوت انهيار مريع،صعق حين تنبه للبناية وقد تحولت إلى ركام،تلفت يمين وشمال، تأكد من خلو الشارع وغادر المكان مسرعا،أدرك في طريق عودته للمنزل بان سحرا ما قد غلف عينيه،كان ذلك حين هوت المدارس والجوامع والمنازل والجسور والعمارات بمجرد سقوط ناظريه عليها،سار ببطيء بين ركام الأحجار،وصل المنزل وتردد بالدخول بعد أن لاحظ المدينة وقد صارت وكر أشباح،أغمض عينيه ودخل عسى أن ينقذ بذلك زوجته وطفله،سمع صوت الزوجة المرعوبة وهي تحاول أن تفهم ما حدث للمدينة،تركها وتحسس طريقه مغمض العينين إلى غرفة النوم،عندها سمع صوت الرضيع الباكي فارتجفت لهذا الصوت الملائكي أجزاءه فما كان أمامه إلا أن ينظر بلهفة إلى مصدر الصوت،وحالما سلط نظره على الطفل سقط من بين ذراع الأم واصطدم جسده بالأرض فتناثر شظايا صغيرة سرعان ما صارت فراشات ملونة أخذت تمرح في الفضاء بعد أن خرجت من النافذة،انطلقت من بين أسلاك الدهشة صرخات الأم التي جثت على الأرض مولولة نادبة،كانت المرارة تنهش قلبه،لا يعرف ما سوف يفعل،نظر بأسى إلى زوجته وفي داخله ألم بات يعصره حتى أخذت صورة المرأة بالتماوج مع رقرقات الدموع،ظلت المرأة تتماوج في الفستان حتى تمزق تماما وخرجت منه غزالة سرعان ما قفزت برشاقة إلى الشارع،أسرع مذهولا نحو الشارع وشيع بنظرات حزن تلك الغزالة القافزة بمرح خلف سرب الفراشات،نادى خلفها بحشرجة واهنة حتى توارت عن ناظريه،أحس بعزلة مميتة ما عاد يسمع على أثرها غير نحيب داخلي يحاول أن يمزق هذه الوحشة السوداء، اخذ يدور في أرجاء المنزل وفي رأسه فكرة إيجاد مصدر للخلاص من هذا الخراب،وجد المسدس فسدده إلى رأسه دون تردد،وفي لحظة ضغطه على الزناد تحسس انسيابا سريعا لحبيبات من الرمل،حدق لكفه الخاوية ثم إلى كثيب الرمل المتناثر على الأرض،عرف مدى الخيبة التي تتلبسه،صرخ بحرقة وأطلق ساقيه للريح،قادته قدماه للنهر وهناك شعر بأنه خاو إلا من إحساسه بالعطش،توجه إلى الجرف،جثا على ركبتيه،اغترف من الماء وشرب قليلا،حدق في صورته المنعكسة على الماء،تلبسه فزع مميت حين لاحظ الصورة تضحك بهستريا،شعر أن كل خلية في جسده تدعوه للهرب،وقبل أن يفعل ذلك،امتدت ذراعه من الماء لتسحبه إلى قاع النهر.