قراءة في قصيدة ( وحدي أراك ) للشاعرة المبدعة / منية الحسين ( الجزء الثاني )
وحدي أراك
للأديبة / منية الحسين
كان لا بد ّ أن نقدم هذه القراءة على مرحلتين ، حتى نتجنب الوقوع في الإسهاب الذي من الممكن أن يجلب الملل للمتتبع كما أسلفنا في الجزء الأول من هذه القراءة ...
وتمسّد العيْنين بالشْوقِ الحنونْ
أُوّاهُ منْ عصْفِ الشّجونْ
مثْل انْشِطار الروْح في حفْل الهمومْ
مثل انْتحار الورْد في صخب ِالذّبولْ
أوْ كانحْسار الماء في نهْدِ الغيوم
!!!
هنا تقدم الأديبة مشاهد متتابعة للتمثيل ، فالحزن الذي يتقاذفه العصف يأتي بصورة نقف أمامها في حالة تأمل :
الروح تنشطر ُ ، هنا الشاعرة ترسم مشهدا ً بصريا للروح وتقوم بتجسيد الروح بطريقة مجازية بعيدة ، حيث الثابت دينيا أن الروح من الأسرار التي لم تفصّلها الشريعة السمحاء ...ونقف أمام صورة أخرى ( حفل الهموم )
فالشاعرة استطاعت أن ترسم مشهدا بصريا جميلا ( قاعة فيها مظاهر فرح ، وشخوص هذا الحفل هم الشجن / الحزن / الهموم ...وفي هذا السطر الشعري قدّمت صورا مركبة متتابعة ( انشطار الروح / حفل الهموم ) ...ثم تقدم صورة أخرى ( هنا الورد ينتحر ) والورد هو مفردة عميقة الدلالة ، ظاهر المفردة هو الورد الذي نعرفه في الحدائق والجنائن وتنبعث منه الرائحة الجميلة والعبق الرائع ..لكن أرى أنها قدمت لفظا ظاهرا وأرادت ما خلف اللفظ من معنى باطن ، وهي صورة فيها تعبير غني بالدلالات والإشارات ، ربما نقدم ذلك من خلال الدراسة التي نعكف عليها في عملنا القادم ( الدلالات والإشارات في أسلوب منية الحسين ) ....
وتختتم هذه الفقرة الجميلة بصورة الماء حين يبقى حبيسا في الغمام ، وما أجمل هذه الصورة !! حين شبهت الغيم بالمرأة وحذفت المشبه به وأبقت شيئا ً من لوازمه ( النهد ) على سبيل الإستعارة المكنية ...
أقْبِل برفقٍ وانْزع الحُزن العنيدْ
كُنْ بسْمتي الخضْراء كنْ طلْعي النّضيدْ
كنْ دوحة القلب الذي
يهوى السّباحة في المحالْ
نمْ فوْقَ جُرْحي
أوْ على خصْر الأماني
واكْسر البرْد المُخيّم في الثواني
واغْزل العطْر العفيّ جَدائلاً
تهْمي فراتاً فوْق أعْشاب الدّماءْ
دعْني أُسَطّر نزْف قلبي في صفاءْ
دعني أرتّق ثوب عُمْري
بالضّياءْ
هنا تلجأ الشاعرة الجميلة / منية لتوظيف الفعل الأمر ، وهنا يجب أن نتوقف قليلا ، ونتساءل : لماذا لجأت في الجزء الأول من القصيدة لتوظيف الفعل المضارع والذي كان َ يُشكل ُ مدماكا ً ولبنة ً أساسية في بناء الجزء الأول من النص ؟ بينما نرى أن الفعل الأمر يُشكل ُ حجر أساس لبناء الجزء الثاني من القصيدة ؟
ربما يقول قائل : هي مجرد صدفة حملتها القصيدة ، ولو سألت الشاعرة نفسها ، بالكاد ستقول لم تقصد تقسيم القصيدة لفعلين ( مضارع / أمر ) وهذا أمر بديهي ، لأننا نرى أن القصيدة تطلب ُ الشاعرة منية ، لا هي من يطلبها ويتكلف ُ بناءها ...
نرى أن الفعل المضارع في الجزء الأول كان حول رؤيتها له : وهذا يتماهى مع نظرتها ( وحدي أراك) وهي نظرة تنسجم مع الحالية ، فهي تراه من خلال حضوره في وجدانها ، .....الخ .
أما الفعل الأمر : فقد جاء اللفظ بلغة الأمر تحت عنوان الأمنيات ، ( كن دوحة القلب ...أقبل برفق ...كن بسمتي الخضراء ...واكسر البرد ...الخ ، فهي كلها في معرض الأمنيات ...إذا العلاقة ما بين الفعل المضارع والفعل الأمر هي علاقة وجدانية متنامية في بناء الحس وتطور النظرة ، دون أن يشكل ذلك إنزياحا عن المعنى الكلي المراد من خلال الجو العام للقصيدة ، وهذا يؤكد أن الشاعرة لا تعمد لرصف المفردات ، بل تترك روحها تحلق في ملكوت مختلف ، وفضاء بديع ، لا يستطيع الغوص في مداراته وأعماقه سوى القليل ..وربما نكون من القليل الذين يمكنهم الولوج لذاتية الشاعرة المتفردة .
ومن خلال هذه القصيدة ربما لمحنا ابتسامة شاحبة ودمعة راقصة على وجنات بطلة النص ، وحزن عميق متجذر لما وراء الوراء ...ربما هو حالة من الإنطواء والحزن الذي يسيطر على نفس بطلة النص استطاعت المفردات في جوانب فضح هذه المشاعر واماظة اللثام عن وجهها الحقيقي ...فهناك ثمّة حائل سرمدي بينها وبينه ، هذا الحائل يتلاشى في خضم تحليق الروح وعناقه في أجوائها الخاصة من خلال احتفالية مضمخة بالوجع والهموم ...
ياشهقة الأنْفاس يامسْرى الرّبابْ
سأظلّ أرْحل
كي أراكْ
إنْ كنْتَ وهماً أو سرابْ
أو كنْتَ صرْحاً من ضبابْ
سأظلّ أكْتُب
كيْ أراكْ
وهنا تأتي القفلة في ثوب ٍ بديع ، ولمحنا كيف استطاعت تقديم توطئة للمتلقي أنها تقترب من إنهاء القصيدة ...وهناك طناس ٌ جميل بين براعة الإستهلال ( وحدي أراك ) والختام ( كي أراك )
مؤكدة أنها شاعرة ذات نفس شفيفة ، اختارت قلمها ومدادها طريقة لتراه ، فالكتابة هي وسيلتها لذلك ودربها لرؤيته ...والملفت أنها بدأت القصيدة بالفعل المضارع ( لا يرونك ...وحدي أراك ) وختمتها بالفعل المضارع ( سأظل ّ أكتب كي أراك )
وجاء توقيعها يحمل اسما بدى صريحا ( منية الحسين ) واسما مستعارا أو لقبا قريبا من ذاتها ( زهرة برية ) مانحة منتدى النبع شرف الظهور الأول لهذه القصيدة هنا ( نشر أول ) .
منية الحسين : شاعرة غير نمطية ، بينها وبين المفردة علاقة جميلة ، تُشعرنا أنها تدنو من المفردة ، تُسرّح ُ لها شعرها ، تغسلها بالورد والعطر ، تمنحها ثوبا من صناعة يدوية بديع التطريز ...تعنى بنصّها عناية كبيرة ...
فهي بحق أديبة لها علو الكعب وثقافة رفيعة وقدرة على توظيف الصور البيانية والإستعارات والمجاز دون أن يشكل ذلك عبئا ً على النص ، تكتب بفطرة وطبع دون صنعة وتكلف ...
أسلوبها يُغري بالتتبع والرصد ...
منية الحسين : أتمنى لك ِ إنتاجا ً ثرّا ً ...
الوليد
الأرض المحتلة
آخر تعديل الوليد دويكات يوم 10-03-2014 في 02:17 PM.