وصلنا المدينة مساء ، وودعت السائق شاكرا. في الحال اتصلت هاتفيا بصاحبي ، والذي سبق وان وعدني ان يدفع لي المبلغ ، عوضا عن والده. ومن حسن حظي ، انه كان على الهاتف. بعد الترحيب سالني من اين اتكلم ، اخبرته بمكان وجودي ، وحددت المكان. اجابني فرحا انه سيكون عندي بعد اقل من ساعة. بقيت واقفا في مكاني كعمود التلغراف ، منتظرا صاحبي ، وبشائر الامل تتراقص في افكاري فرحا بقدومه. بعد مضي ساعة تقريبا ، وجدته مسرعا نحوي ، فرحا بقدومي ، ومرحبا بي بحرارة...... أراحني حقا بلقائه الحار ، وأنساني همومي ، ومصاعب سفري بين اكياس البصل . اخذني بسيارته المرسيدس ،آخر موديل ، لبيته الذي يقع في ضواحي المدينة ، أي في منطقة بعيدة عن المركز. وصلنا بيته ، وقدمت له هدية كنت قد استلمتها قبل عامين من صديق لي ، وجلسنا ، وبين فينة و اخرى كان يمطرني ترحيبا. شرحت له ظروفي وكيف خاطرت بالمجيء اليه. ما كان سيحل بي ، لو لم اجده في بلد كنت اجهل معالمه ولغته !!!!! عرف صاحبي من مجرى حديثي معه ، أن جيوبي فارغة ، وبطني خاوية ، وأفكاري مبعثرة ، وأنا منهوك القوى. سالني هل انت جوعان ؟ ضحكت مع نفسي وأجبته ، شبعان والحمد لله. صحيح كنت شبعانا من مشاق السفر وأهواله ، اذ كنت لا اعتقد ان تلك الشاحنة القديمة ستوصلني اليه. كنت شبعانا من حديث ، لا يتجاوب ووضعي الذي انا فيه. صاحبي كان كثير المال وقليل المعرفة ، خدعته قشور الحياة ، وابتعد عن جوهرها. وبدافع الشعور بالنقص ، اراد ان يريني انه ليس فارغا ، وجرني الى موضوع العقيدة ، وصار يردد بعض الاصطلاحات في غير مواقعها ، مما جعلني ان انتبه ، انه لا يعرف معناها. صاحبي ببغاء ، يردد مايسمعه ، ولا يفهم ما يردده. قد لا اكون اكثر منه معرفة ، غير اني اكثر منه شعورا بواقع الحياة. كان فكري والحقيقة تقال ، عند المبلغ الذي اسلفته لوالده ، ووعدني ان يرجعه لي هو ، وكنت اتوقع بين فينة و اخرى ان يقدمه لي شاكرا ، غير ان هذا لم يحدث وياللأسف. سألني ان كنت قد حجزت غرفة في الفندق. اجبته بنعم ، في الوقت الذي هو يعرف من مجرى حديثي معه ، انا لا املك قرشا واحدا في جيبي. هممت بالانصراف ، والساعة ما بعد منتصف الليل ، وتوقعت انه سوف يعطيني حقي ، ويوصلني الى مركز المدينة بسيارته المريحة ، الى المكان الذي قابلني فيها ، ولكن لم يحدث هذا. اعتذر لي بحجة أن الوقت متأخر ، وعليه ان يذهب صباحا لعمله ، الا انه قال : اركب باص (اوتوبيس) يوصلك لمركز المدينة ، وخجلت ان اطالبه بحقي ، كما خجلت قبلها ان اصارحه بجوعي. ودعته وظلام الليل قد عانق ظلام همومي وأشجاني . اين انا ؟ لا اعرف !!!! الى اين اتوجه يا ترى ؟ لا اعرف !!!! ما سأعمل ؟ لا اعرف !!!!! أين انام ؟ لا اعرف !!!!! وسرت بطريق أل.. لا أعرف متوكلا على الله. الجو كان باردا نوعا ما ، والرياح كانت تعاكسني ، وكأنها تحاول ان تقلع مني ما تبقى عندي من بقايا الامل.الطرق خالية من المارة ، والسكون يخيم المنطقة من كل جوانبها ، بحق ليلة مظلمة تعكس واقع الامي وبؤسي وأشجاني. ليلة ، رمتني في بحر من المجهول ، لا اعرف كيف اتصدى لأمواجه العاتية !!!! سرت مرتديا ظلام الليل ومتوكلا على الله في شارع خال الا من انات اشجاني ومصائبي وأحزاني !!!!!!!!!! وصدفة ، رأيت رجلا ، واستبشرت خيرا. حييته وسألته ، أتتكلم الانكليزية ؟ فأجابني بكلمات ركيكة وهو يتمايل : سعيد ان اقابل سكرانا مثلي. تركته مسرعا ، وصار يناديني بصوت عال : تعال يازميلي تعال !!! تذكرت مقاطع اغنية قديمة لا اعرف لمن (( ناس فرحانه مطربه ، ناس محتاره ابأمرها )) نعم شر البلية ما يضحك !!!!!!!! سرت حائرا ، محاطا بالبرد ، ورذاذ المطر ، والرياح. سرت باتجاه مجهول ، آملا ان التقي بابن حلال ، يدلني على الاتجاه الصحيح. التقيت بامراة عجوز ، ارتأى لي انها تحمل على ظهرها مصائب الحياة والامها. سالتها في اللغة الانكليزية عن محطة القطار الرئيسية. لم تفهمني ، انها تعرف بعض الكلمات الا انها لا تعرف ما تعني المحطة في اللغة الانكليزية ، لذا اضطريت ان اردد لها كلمة طوط ، طوط ، طوط . جك ، جك ، جك أكثر من مرة ، و أأشر لها بيدي ، علها تفهم مقصدي وتعرف ما اعني. لم اجد الا وقد دارت ظهرها ، وتركتني مسرعة ، بعد ان ظهر عليها الارتباك ، لاعتقادها انني مجنون.!!!!!!!!!!! حرت في امري ، وما اصعب حيرة انسان تائه في فلوات الحياة ، ولا يملك مساعدا !!! كنت أاشر لكل سيارة تمر ، ولا احد منهم يعيرني اهتماما . بعد حوالي النصف ساعة من السير ، في شارع اجهل اتجاهه ، رايت سيارة للاجرة ( تكسي ) واوقفتها ، وسالت السائق عن محطة القطار الرئيسية ، وأعلمني اني اسير في الاتجاه المعاكس ، وعلي ان ارجع ، واسير لنهاية الشارع ، ومن ثم اسال عن الطريق الذي يؤدي بي الى المحطة الرئيسية. واصلت سيري راجعا ، ومفكرا بمصيري المظلم ، وقبل نهاية الشارع ، شاهدت رجلا قادما ، وسألته عن الطريق الذي يوصلني الى المحطة الرئيسية للقطار في مركز المدينة ، فأجابني مبتسما ، وكان يتكلم الانكليزية بطلاقة : اما ان تكون فيلسوفا ، او شاعرا ، او سارقا ، اعني حرامي هههههه اجبته ، لست واحدا من الثلاثة ، و انما سائح لا يعرف معالم المدينة. ثم قال : من اين سرقت الحقيبة التي بيدك يا فتى ؟ ما رايك اسلمك للشرطة لتتخلص الناس من اذاك. اجبته بامكانك ان تنادي الشرطة ، لاني لست سارقا. وضحك قائلا : انت في مكان بعيد جدا عن مركز المدينة ، وصعب جدا ان تصل المحطة مشيا. سألته كم استغرق مشيا ؟ اجابني حوالي أربع ساعات ، وشرح لي الطريق بالتفصيل. ودعته شاكرا ، وسرت على هدىنصائحه. سرت في طريق موحش خال من البيوت متوكلا على الله ، تارة يغمرني اليأس ، وتارة يحيطني الامل ، والدموع تسيل على خدي دون ارادتي وسط ظلام موحش وجو معتكرغريب !!!!!! حتى وصلت المحطة ، والساعة كانت تشير الى السادسة صباحا. اخوكم ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
يتبع
آخر تعديل صلاح الدين سلطان يوم 10-14-2014 في 12:55 AM.