قام كسرى منتفخا وأمر كاتبه أن يكتب إلى باذان نائبه على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل ، الذي ظهر بالحجاز ، رجلين جَلْدين من عندك ، ومُرهما أن يأتياني به .
ولم تكن هذه المرة الأولى التى يسمع بها أهل اليمن عن دعوة الإسلام إذ أن أرض الحجاز ليست بعيدة عن أهل اليمن فهناك ارتباط وثيق بين البلدين من زمن بعيد من حيث الموقع الجغرافى ومن حيث الرحلات التجارية التى كانت قريش تقوم بها فى رحلتى الشتاء والصيف .
وقد سمع أهل اليمن عن رجل يدعى النبوة من أهل مكة وسمعوا أنه خرج طريدًا إلى يثرب وأقام بها حتى الآن أى قرابة عشرين عامًا -إذ ظل النبى فى مكة ثلاثة عشر عامًا وها نحن فى العام السابع للهجرة - كل هذا والأمر حتى الآن لا يعنيهم بل يتابعونه من بعيد.
لكن باذان ما إن وصلته رسالة سيده كسرى حتى انتدب رجلين من خيرة رجاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحمَّلهما رسالةً له ، يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كِسرى، دون إبطاء ، وطلب إلى الرجلين أن يقفا على خبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يستقصيا أمره ، وأن يأتياه بما يقفان عليه من معلومات .
فخرج الرجلان يُغِذَّان السير الى غايتهما شطر المدينة ، حتى إذا بلغاها علما مما رأيا من تعظيم أهل المدينة للنبى صلى الله عليه وسلم وحبهم له مدى خطورة المهمة التى أقبلا من أجلها حيث إنهما لا يستطيعان أن يأتيا بمحمد إلا إذا أتيا بأهل المدينة أجمعين ، نظرًا للمحبة والفداء التى يصنعها أهل المدينة لمحمد صلى الله عليه وسلم .
ولما دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما، وأظهر ذلك لهما وقد أشاح بوجهه الى الجانب الآخر حتى لا ينظر إليهما وقال: ( ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا أمرنا ربنا يعنيان كسرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي ) .
ودفع الرجلان إلى النبى صلى الله عليه وسلم رسالة باذان ، وقالا له :
إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا باذان ، أن يبعث إليك من يأتيه بك ، وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه ، " شرِّف معنا " فإن أجبتنا، كلَّمنا كسرى بما ينفعك ، ويكفُّ أذاه عنك ، وإن أبيت ، فهو مَن قد علمت سطوته وبطشه وقدرته على إهلاكك ، وإهلاك قومك ، " إذا قلت : لا ، فإن كسرى قادرٌ على أن يهلكك ، ويهلك قومك .
لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم بل تبسَّم عليه الصلاة والسلام ، وقال لهما :
ارجعا إلى رحالكما اليوم ، وائتيا غداً .
فلما غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي ، قالا له : هل أعددتَ نفسك للمُضِيِّ معنا إلى لقاء كسرى ؟
فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : إن ربى قتل ربكما الليلة .
لن تلقيا كسرى بعد اليوم ، فلقد قتله الله ، حيث سلَّط عليه ابنه شيرويه في ليلة كذا من شهر كذا وقتَله .
إنه خبرُ الوحي ، نقله ببرودة ، لن تلقياه بعد اليوم ، لقد قتله الله ، لأنه مزَّق الكتاب .
فحدَّقا في وجه النبي ، وبدت الدهشة على وجهيهما ، وقالا :
أتدري ما تقول !! أنكتب بذلك لباذان ؟
قال : نعم ، وقولا له : إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى ، وإنَّك إن أسلمتَ ، أعطيتكَ ما تحت يديك ، وملَّكتكَ على قومك.
بلِّغا باذان وقولا له : إنّ مُلكي سيصل إلى ملك كسرى ، وأنت إن أسلمتَ أقررناك على ملكك ، اختلف الأمر اختلافًا كلِّيًّا .