اقتربت الليلة التي تخشاها عوائل المدينة ،هرع الجميع إلى المنازل، بوجوه شاحبة وأكف مرتجفة. الريح الشتوية تصفع وجوه المنازل، والشوارع شبه خالية، ولم أر مظهراً واحداً من مظاهر الاحتفال. هذا حال الآباء منذ إن اقترب موعد ليلة رأس السنة، في هذا العام وفي الأعوام التي مضت.. كنّا قديماً نحلم بزيارة (سانتا كلوز)، الرجل الطيب ذو الملابس الحمر، واللحية البيضاء والوجه البشوش. نحلم حين كنّا صغاراً أن نجلس صباحاً، ونرى الهدايا التي تركها لنا ،هدايا جميلة تمنحنا السرور والبهجة. لكنه في ليلة رأس السنة من كل عام، صار يتسلل عبر النوافذ والمداخن، يضع جثثاً لقتلى مجهولين، عند رؤوس الأطفال النائمين، ثم يغادر بهدوء. فيجلس الآباء صباحاً على صراخ الأطفال، مفزوعين من منظر الجثث التي يصبغها الدم. إنه شيء عجيب يفعله سانتا كلوز مع أطفال المدنية ! ،حتى أن البعض قد شكك في أن يكون سانتا كلوز من يفعل هذا، وقالوا( لعل قاتلاً مجهولاً يريد زرع الرعب في قلوب أطفالنا ،نحن لا نصدق أن يكون سانتا كلوز، حبيب الأطفال ومانح البسمة هو الفاعل). ومع مرور الوقت تعودوا على هذا الشيء، صحيح أن الفزع يغزو قلوبهم في هذه الليلة، ولكنهم صاروا ينسون كل تفاصيلها مع مرور الزمن، ثم يعود الخوف إلى قلوبهم مرة أخرى، مع عودة ذكرى عيد رأس السنة. حين تمر الليلة كل عام ،أرى الآباء يتحدثون بينهم عن الهلع الذي اصابهم، يسرد كل واحد منهم للآخر ،عن تفاصيل الجثة التي وجدها في منزله، واحد يصف الجثة أنها رُمَيت بالرصاص ،وواحد يقول أنها محترقة بالكامل ، أو أنها مبتورة الساق، وآخر يقول أنها مقطوعة الرأس. ولما رأيت ماحدث ويحدث كل سنة ، قررت عدم الزواج والتورط في انجاب إطفال ،لأنني صراحة أخاف النظر إلى شكل جثة ،فكيف بي إذا جلست صباحاً على صوت طفلي، وهو مفزوع من إحداهن وقد رُمِيت إلى جواره!. لهذا في كل ليلة رأس سنة ،أحتفل وحدي في منزلي، بعد شراء زجاجة من الخمر ،وترتيب المأكولات ،ولم ينقصني سوى فتاة حبيبة ،أعيش معها اللحظات الرومانسية الجميلة. لم يزعجني في الحقيقة غير صراخ الأطفال، اطفال الجيران عند الصباح ،حين يتم اكتشاف تلك الجثث اللعينة، الهدايا التي يخشى الآباء على أطفالهم منها. لم أكترث فهي مسألة وقت فقط، ولولا فضولي اللعين القاتل ،الذي اغراني إلى اكتشاف حقيقة من يرمي تلك الجثث، لما سهرت في هذه الليلة، أخرج إلى السطح وأدخل، منتظراً حضور من يوزع الجثث على المنازل في جوف الليلة الباردة. لم أصدق ما رأته عيناي ،حين لمحته يسير في الفضاء، في مركبة سوداء ذات عجلات مسننة، ومدافع نارية مغروزة في جوانبها. لم أر الوعول التي تجر العربة ،تلك العربة نتخيلها وهي مليئة بالهدايا!. دلكت عيني بشدة وأنا أطالعه مرتجفاً، كيف يدخل إلى المنازل، ثم يخرج هذه المرة وعلى كتفه جثة. كانت عربته فارغة ،ولم يسحب منها أي هدية من تلك الهدايا المخيفة، بل كرر هذا الشيء مع المنازل كلها ،في كل مرة يدخل ويخرج حاملاً جثة نظيفة. هرعت إلى جوف المنزل ،كأن حيواناً مفترساً ركض ورائي . ثم رشفت قليلاً من الكأس، وصورة المشهد تظهر أمامي وتغيب. هجم على عقلي قطيع من الأسئلة (تُرى من الذي حملهم سانتا كلوز إلى عربته ؟).خطرت في بالي فكرة أن أغلق الأضواء وأنام ،سأتخلى عن فكرة الاحتفال لهذه الليلة. وبالفعل اقفلت الأضواء وخنست في السرير تحت اللحاف. عرفت في الحين أنني لن أنجو ،لقد كان صوت النافذة وهي تُفتَح يضرب أذني. وقفت والعرق يتصبب مني كأنني مصاب بالحمى. وكادت عيناي تخرجان من محجريهما، حين رأيت سانتا كلوز يجول في تفاصيل المنزل، يفتش عن شيء ضائع في الزوايا. ثم توجه إلى غرفتي، فقفزت من وراء الباب لكي ألبد في مكان آمن. دخل إلى الغرفة ثم هتف (لقد رأيتك.. اخرج). توسلت إليه أن لا يؤذيني ،ثم أنني اخبرته وأنا مبتسم( لا يوجد لدي أطفال ..بإمكانك التخلي عن الفكرة واخذ هديتك مصحوباً بالسلامة). لم ترق العبارة له، لأنه ظل يطالعني بعينين جامدتين ،لم يكن مرتدياً لزيه التقليدي الأحمر، إنه يرتدي ملابس خشنة غامقة ،و(بسطال) كبيراً يضرب به الأرض بقوة، ويضحك بطريقة لم أرتح لها. اقترب مني ثم ضربني على ظهري، لم أستطع مقاومته ،حملني كأنني وسادة على كتفه ،ثم خرج إلى السطح حيث عربته الحديدية الكئيبة. رمى بجسدي بين مجموعة الجثث التي جمعها من منازل المدينة ،لقد كانوا الآباء ذاتهم ،كانوا أحياء متراكمين وصامتين في الوقت نفسه، ولم يستطيعوا جميعهم رفض تلك الرحلة المجهولة. كانوا مشلولين ،مخدرين، مستسلمين لأوامر صاحب العربة. ولم يتساءل سواي (إلى أين سيأخذنا ؟).فلم يجبني سوى سانتا كلوز هاتفاً (إلى مدينة مجاورة...إنهم ينتظرون بلهفة ...لن نتأخر عنهم أكثر فالليلة على وشك أن تنتهي) ثم ملأ الفضاء بضحكة صاخبة، واقلعت المركبة.
التوقيع
أتزهر في روحي حدائقُ جنةٍ
ثلاثونها المسكينُ كالطفل يقبعُ