أريكة متهالكة عفا عليها الزمن ، تداعت أركانها ولم تفلح بقايا مسامير صدئة تناثرت هنا وهناك من إصلاح ماأفسده الدهر ، لم تعد تقوى على حمل أصحابها وكأنها في النزع الأخير ، تصارع من أجل البقاء . تتوسط الغرفة طاولة خشبية يعلوها الغبار ويحيط بها ثلاثة كراسي بالكاد تتماسك، تصدر صريرا عميقا يشبه الأنين عندما يجلس فوقها قاطنو ذلك المنزل البائس. حل الشتاء ضيفا ثقيلا على المدينة وهو يفرض شروطه القاسية ولم يجد الأهالي بدا من الإذعان لسطوته. هجعت الخلائق وبدأ الليل يسدل أستاره، غلالة من أبخرة غشيت زجاج نوافذ البيوت العتيقة وعانقت أسطح المنازل وأوراق الشجر.
عقارب ساعة قديمة تتمطى بإيقاع رتيب مثل قط كسول، دقائق قليلة وينتصف الليل ،كان الوقت يمر بتثاقل ، ليلة شديدة البرودة تبعث على القشعريرة ، مساءات كانون معروفة بقسوتها في مثل هذا الوقت من العام ، تجبر كل من يرتاد الشارع أن يمارس طقوسا من الرقص مع حركات سريعة للأيدي والأرجل في محاولة مضنية لبث روح الدفء في الأوصال ولكن دون طائل.
خلف تلك الستائر الكالحة التي يمتطيها الغبار يلوح شبح امرأة ينعكس ضوء شمعة خافت على قسمات وجهها الحزين المشوب بالخوف والقلق، توزعت الكدمات والهالات الزرقاء تحت عينيها الغائرتين، جبل من الهموم يربض فوق صدرها وعلى مقربة منها يرقد ولدها الوحيد فوق فراش بال ، تكور حول نفسه بعد أن سرت البرودة في سائر جسده النحيل ، لايستره سوى بطانية قديمة ، يتقلب يمنة ويسرة عله يقهر جنرال البرد ، الذي طالما هزم أعتى الجيوش وأجبرها على التقهقر والانسحاب.
صمت موحش يشبه صمت القبور يخيم على المكان ، الضباب يلف طرقات المدينة ويزرع الخوف ، وماهي سوى لحظات ، حتى سمع قرع شديد على الباب مع سباب وشتائم مصحوبة باللعنات ، هرعت الأم المسكينة وهي تتخبط من شدة الخوف وكأنها تسعى إلى حتفها ، ارتعدت فرائصها، فتحت الباب بيدين مرتعشتين ، بدأ يمطرها بسيل من الشتائم ويصفها بأقذع العبارات والمسكينة تحاول أن تهدئ من روعه مخافة أن يستيقظ ولدها الوحيد . لم يفلح الليلة في بيع كل علب المناديل فعاد مبكرا على غير عادته من شدة البرد بعد أن هده التعب وهو يذرع الشارع جيئة وذهابا.
- كيف يمكن للحب أن يسحق تحت عجلات دوامة الحياة ؟ أين كلمات الرومانسية ونظرات الوله ، لقد تغير كل شئ ، كان يهمس في أذني مترنما ، أنت معشوقتي وحلم حياتي ، أين ذهبت كل تلك المشاعر؟ كانت تحدث نفسها.
- أين العشاء... أيتها الحقيرة؟ ألا يكفي أني أعمل كي أطعمك أنت وولدك الكسول. أخرجها ذلك الصوت من حلمها.
بدا مثل الثور الهائج وهو يزبد ويرغي، تطاير الشرر من عينيه ، نزع حزامه وبدأ يذيقها شتى صنوف العذاب وهي تتوسل له بعيون دامعة وبحق العشرة التي بينهما أن يتوقف ولكنه لم يتورع عن المضي قدما وقد شعر بالانتشاء. لم يجرؤ الصبي على الحركة وبدأ يرتجف مثل أوراق الشجر القرمزية عندما تتلاعب بها رياح الخريف.
- هل بعت كل علب المناديل ؟ أرني كم معك ؟
-ولكن ، ولكن ، كانت الليلة ... بدا الصبي متلعثما وهويجاهد كي ينجو من العقاب حيث أيقن أن دوره حان.
كانت الأم ترقب المشهد والألم يعتصر قلبها الغارق في لجة الأحزان ، مثل قطة تلعق جراحها النازفة ، لم تدر كيف واتتها الشجاعة الكافية لمجابهة ذلك الوحش الذي تجرد من إنسانيته ، وقفت بجسدها المثخن بالجراح لتحول بينه وبين فلذة كبدها.
- حسنا ، أيها الأوغاد ، سنرى غدا ، لاتفكر بالعودة إلى البيت دون أن تبيع كل علب المناديل ، صرخ مهددا بقبضته .
في ذلك المساء الكئيب، خلت الشوارع من المارة ماعدا مرور بعض المركبات بين الفينة والأخرى ، الجوع والبرد ينهشان جسده النحيل ، لم يجد الصبي بدا من تقطيع الصندوق الكرتوني الذي يضع فيه علب المناديل ، طفق يشعل النار ليلتمس الدفء الذي حرم منه. في الجهة المقابلة من الشارع الذي يقطنه الأثرياء ، خلف الستائر المخملية ، راح يتأمل الأضواء التي كانت تتلألأ وتتراقص مثل النجوم المعلقة في السماء ، تخيل نفسه في ذلك المكان الساحر.
كل شئ يخطف الأبصار، جلس في مقعده الجلدي الوثير مرتديا بيجامته القطنية أمام الموقد وهو يرقب قطع الحطب المشتعلة ، رائحة شواء الكستناء يسيل لها اللعاب ، يرتشف كوبا من الشاي الساخن ويلتهم قطعة التورتة بتلذذ ، سرحت عيناه في الأفق البعيد وقد ارتسمت فوق ثغره ابتسامة رضا. بيد أن جسده كان متخشبا ، وشفاهه تكسوها زرقة داكنة.
التوقيع
روحي تحلق بعيداً في الفضاء تخترق الاَفاق ، ترنو إلى أحبة حيث الشحرور والحسون يشدو على الخمائل أعذب الألحان . لما رأى الحمام لوعتي وصبابتي رق لحالي وناح على الأيك فهيج أحزاني وأشجاني . أتسكع في أروقة المدينة وأزقتها .. أبحث عن هوية ووطن ! ولا شئ غير الشجن . أليس من الحماقة أن نترك الذئاب ترتع فوق تخوم الوادي ؟