في رثاء صديقي الشاعر الراحل أ. (حاتم يحيى طه)، رحمه الله
أنا لا أصدّقُ.. ربما كَذَبوا
دعني، سأمحو كلَّ ما كتبوا
قالوا ذهبتَ بلا وداعٍ
قلتُ لا
ما كانَ يومًا ناسيا أو طبعُه الهَرَبُ!
إن كان يَنوي أن يَموتَ لَقالَ لي
هو بالغُ التهذيبِ حقًّا، كلُّهُ أدبُ
دَمِثٌ خَجولُ القلبِ مثلُ يمامةٍ
مَرِحٌ عَذوبٌ،
كالبلابلِ قولُه طَرَبُ
وبِرَغمِ رقّةِ قولِهِ
فاللفظُ في أشعارِهِ
عُنوانُه الشَّغَبُ
هو (حاتمٌ طه)
كَفَاهُ بشِعرِهِ الحَسَبُ
ومدرّسٌ يَسقي الصغارَ بدرسِهم ما أبدعَ العَرَبُ
***
أنا لا أصدّقُ،
سوفَ أجلسُ في مكانِ لقائنا
أرنو لساعةِ مِعصمي وأظلُّ أرتقبُ
هو صادقٌ
ما كان أخلفَ موعدًا
أو كانَ أَوهَى عزمَه التَّعَبُ
فإذا بدا، أناْ لن أُعاتبَه على ما أرجفوا
فالصَّـفْحُ بينَ الأصدقاءِ نَقيضُه العَتَبُ
جهّزتُ أشعاري لأُسمِعَها له
لي الفخرُ دوما لو بدا في عينِه العَجَبُ
لا تَسْأَلَنْ..
هي غايةُ التلميذِ: للأستاذِ يَقتربُ
حينًا وأسألُه:
أتُسمِعُني جديدا قد كتبتَ؟
يُجيبُني مُتنهّدا:
لا وقتَ عِندي.. كدتُ أكتئبُ
فأقولُ:
يومًا قد ذكرتَ قصيدةً
ما زلتُ أذكرُها شَغوفا.. إنّها ذَهَبُ
فيها (علي بابا) وعُمْرُ الأربعينَ.. كتبتَها؟
فيكادُ يَنتحبُ:
في زحمةِ الدنيا تَتوهُ قصائدي، والشِّعرُ يحتجبُ
فأقولُ:
هَوْنًا، لا عليكَ، إذا طلبتَ فعنديَ الطلبُ
منّي استمعْ لقصيدةٍ
حتى تَفورَ حماسةُ الإبداعِ،
يُذكي نارَكَ اللَّهَبُ
فيُصيخُ لي مُستمتعا
ويقولُ "يا سِيدي"
غَدَا كالطفلِ يَرنو حالمًا،
في عينِه الرَّغَبُ
***
وأُفيقُ مبتسمًا ودمعي قد جرى
وحدي أًُخاطبُ طيفَه والناسُ قد عَجِبوا
أأكونُ مجنونًا أنا؟
حتما سيأتي ها هنا
ما بينَنا حُجُبُ
ويقول لي:
"يا صاحبي
قدرُ الإلهِ على العبادِ مشيئةٌ تَجِبُ"
هل قد مضَِى؟
أنا لا أصدّقُ،
ربما .. أو ربما لا .. إنها سُحُبُ
في غفلةٍ أحلامُنا
تمضي الحياةُ كأنّنا
في جَدِّها لَعِبُ
لكنّني ما زلتُ أجلسُ في مكانِ لقائنا
حتى إذا هوَ قد مَضَى معَ كلِّ مَن ذهبوا
فَلِذكرياتٍ بينَنا
ما زالَ حيا داخلي
ولِضِحْـكِهِ صَخَبُ
***
أنا لا أصدّقُ.. إنّهم كَذَبوا
ما كانَ ماتَ فَعِندَ اللهِ أَحتسبُ
محمد حمدي غانم
23/5/2017
* علي بابا والأربعون عاما المشار إليها هي فكرة قصيدة راودت صديقي الشاعر الراحل حاتم طه منذ خمس سنوات حينما كان على مشارف سن الأربعين وسألته أكثر من مرة إن كان كتبها أم لا، فكانت إجابته كما في القصيدة.. رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته
صديقي الحبيب حاتم طه.. وداعا:
كنت أنتظر انتهاء فترة الامتحانات بلهفة، لأتصل بصديقي العزيز مدرس اللغة العربية الشاعر حاتم يحيى طه، لأسعد بلقائه كما اعتدنا في فترات الصيف.
عرفت حاتم لأول مرة منذ حوالي 22 عاما في الأمسيات الشعرية الرمضانية التي كانت تقام بالاشتراك بين قصور الثقافة وأندية الشباب.. كنت حينها أخطو خطواتي الأولى في درب الشعر، وانبهرت كثيرا بأشعار حاتم الفصحى والعامية وأسلوبه الممتع في الإلقاء.
ثم بعد ذلك صرنا نتقابل على فترات متباعدة في الندوة الأدبية في قصر ثقافة فارسكور أو دمياط، لأن كلينا كان ينقطع عن الحضور لشهور أو سنوات على حسب مشاغله.. لكننا عدنا إلى الحضور بانتظام في عام 2009 وظللنا كذلك حتى عام 2012، وحينما توقفنا عن الحضور بعد ذلك كنا على تواصل، نتقابل في الإجازات الصيفية، لنقضي أمسياتنا الشعرية الخاصة بنا على ضفاف النيل أو البحر، نجلس في الأماكن العامة أو نادي المعلمين أو نادي الزراعيين أو نادي المهندسين.. كما شرفني بزيارتي في بيتي مرتين.. وهذا مقطع فيديو يعقب فيه حاتم في ندوة مناقشة ديواني "انتهاك حدود اللحظة" منذ أربع سنوات: https://youtu.be/W42kAsNpN0Y
كما كتب دراسة عن الديوان، سأنشرها لاحقا بإذن الله.
لم يكن حاتم من هواة الإنترنت ولا التقنيات الحديثة، في الغالب لأن وقته لا يسمح له، لانشغاله بأمور الأسرة وعمله في المدرسة والدروس الخصوصية.. لهذا لم يكن لديه موقع أو مدونة أو حساب فيسبوك ولم يستخدم حتى برامج المحادثة على هاتفه.. لكل هذا كان التواصل معه في فترة الدراسة صعبا إلا من بعض المكالمات الهاتفية.. لكل هذا صار بيننا اتفاق غير مكتوب على التواصل مع بدء إجازة الصيف.
وقد اتصلت به أمس متطلعا للقائه، فرد علي ابنه عبد الرحمن، وأخبرني أنه توفي في حادث منذ عدة أشهر، حيث صدمت سيارة دراجته النارية على طريق كفر سعد دمياط الجديدة.
هبط علي الخبر كالصاعقة، وما زلت حتى الآن مذهولا عاجزا عن التصديق.. نحن مخلوقات هشة فرصتنا في الموت أكبر من فرصتنا في الحياة، والمعجزة الإلهية الحقيقية هي أننا نحيا لا أننا نموت.. ورغم هذا نعجز عن تصديق هذه الحقيقية البسيطة حينما يختطف الموت أحد أحبابنا في شبابه.
الآن أحاول أن أقنع نفسي أنني لن أرى بعد الآن صديقي الحبيب حاتم طه، بِسَمْـتِه الوقور وبَسْمَتِه البشوش وشخصيته المهذبة وصوته الهادئ ولغته الجميلة وأشعاره المدهشة وكل ما كان يجعله حاتم طه الذي أحببناه.
وعلي أن أقنع نفسي أن سهرتنا الطويلة الممتعة صيف العام الماضي كانت لقاء الوداع، فقد التقينا في دمياط وتعشينا على النيل، وسرنا مسافة طويلة على النيل إلى موقف رأس البر فركبنا السيارة إلى هناك، لنواصل سيرنا على النيل هناك، نتسامر ونتناقش حتى تكل أقدامنا فنجلس لنستريح فأقرأ له بعض القصائد من صفحتي على الفيسبوك من خلال المحمول، ثم نسير إلى اللسان فأقرأ له المزيد من الأشعار هناك، وهو يقول لي باستمتاع:
- كان يكفيني لو أني كتبت قصيدة مثل قصيدتك "تاء التأنيث المتعدية بالعشق" وأعتزل الشعر بعدها.
ونواصل السير على رصيف اللسان ونجلس فأقرأ له قصيدة تميم البرغوثي "في القدس" فينبهر بها جدا، ثم نواصل السير على رمال الشاطئ لمسافة طويلة، حتى نتعب ونجلس على المقاعد على شط البحر، فأقرأ له المزيد من أشعاري على أنغام الموج وهو يأكل الآيس كريم.
كانت أمسية طويلة ممتعة تمنينا ألا تنتهي، وكانت أطول لقاءاتنا وأجملها، وكانت أول مرة (وآخرة مرة) يتأخر فيها في السهر معي للساعة الواحدة ليلا، ولولا التزاماته الأسرية لسهرنا للصباح، لهذا افترقنا دون أن ندرك أننا لن نتقابل بعدها أبدا في هذه الحياة!
بعد أن مضى كتبت على صفحتي:
" أما من صديق ساهر في رأس البر الليلة فيلاقيني؟.. استمتعت بصحبة الصديق الشاعر أ. حاتم طه، لكن كالعادة الأوقات الرائعة تمر سريعا."
فرد الصديق خالد حسن الجحاوي يدعوني للعشاء معه في دمياط الجديدة، فشكرته.
أكملت أنا السهر حتى الصباح، حيث عدت إلى منطقة اللسان والتقطت بعض الصور ونشرتها على صفحتي، ومنها صورة وضعتها خلفية لسطح المكتب، ستظل تذكرني بتلك الليلة الرائعة:
لم يترك لنا حاتم سوى ديوانه الوحيد "الحب في الوقت الخطأ":
وقد كنتُ محفزه الأساسي لطباعته وكنت من أتم الاتفاق مع مكتبة دار المعرفة التي تنشر كتبي، لأن وقت أ. حاتم لم يكن يسمح له بهذا.. الديوان لا يمثل إلا جزءا صغيرا من أشعار حاتم، وحتى في اختياره للقصائد لم يهتم بتنوع تاريخ كتابتها ومواضيعها، وإنما اختارها متتالية من فترة زمنية معينة فجاءت كلها عاطفية (ربما لمعنى في نفسه)، مع أن له الكثير من القصائد السياسية الساخرة المتميزة.. لهذا لا يعطينا الديوان نظرة شاملة على شعر حاتم.. وكما ذكرت، لا توجد له أي أشعار أخرى منشورة على الإنترنت.. سأرى ما يمكنني فعله في هذا الأمر.
رحمك الله يا صديقي العزيز.. كنت أتمنى أن نتقابل في رمضان كعادتنا بعد صلاة التراويح التي كنت تحرص على أدائها في جماعة كباقي الصلوات، لكن القدر لم يكن يدخر لنا المزيد من اللقاءات، فلعلك الآن في دار خير من دارك وأهل خير من أهلك، ولعلنا نتقابل يوما في حياة أخرى في صحبة أجمل.
رحمك الله وغفر لك وبارك في أبنائك وجعلهم خير عقب لك.
ملحوظة:
أنا لا أتوقف عن تحذير كل من أعرفهم من خطورة ركوب الدراجات النارية خاصة على طرق مصر التي لا يوجد عليها أي معاملات للأمان ولا رقابة ولا نظام!.. الدراجة النارية أسرع من قدرتها على الاتزان وسقطتها قاتلة، كما أنها أسهل اختيار للتضحية أمام أي سائق سيارة يجد نفسه في مواجهة سيارة أخرى!
وقد نصحت حاتم رحمه الله بأنه إن كان ولا بد فاعلا، فلا يخرج بدراجته النارية خارج حدود مدينة دمياط، لكن للأسف لم يأخذ بنصحي.
معظم الوفيات في مدينتي بسبب الدراجات النارية والكبد الوبائي.. فمتى ستعتبر الدولة الدراجات النارية وباءً أسوأ من الكبد الوبائي تجب مكافحته للحفاظ على أرواح المواطنين؟