كان يوما متعبا ،أحسست بقيود تشدّ جسمي حد خنق أنفاسي ،أسرعت خارج المكتب خشية أن تصيبني حالة إغماء ،لحقت بي زميلتي في العمل لم أسمع من كلماتها إلاّ :« امسكي الكأس واشربي الماء ،ما هذا إلاّ نتيجة الجهد الكبير الذي بذلتيه في الفترة الاخيرة». و أصرّ ت علي أن أعود إلى البيت . وفي المساء اتصلت لتسأل عنّي ولتخبرني أنّ رفقاء العمل قرّروا القيام برحلة داخلية ،استقرّ اختيارهم على غابة بغرب المدينة عُرفت بشساعتها ونظافتها . لقد كان بنظري المكان المناسب خاصة والفصل الربيعي سيزيد المكان سحرا وجمالا.
وصلنا إلى الغابة وما إن لمست أقدامي بساطها الأخضرأحسست بموجة من المشاعر تغزو كياني وكأنّ بيني وبين المكان رابط روحي .توغلنا أكثر داخل الغابة واخترنا مكانا يطلّ على البحر،يا لروعة الطبيعة حين يحاكي لونها الأخضر زرقة الماء.
أحسست بدوار خفيف قد يكون سببه علوّ المكان لكني أهملته ولم ألق ِ له بالا وبقيت أقلّب الطرف بين كثافة الأشجار وشساعة البحر.
انزويت بمكان غير بعيد عن رفيقاتي ،و كانت أصواتهن تصلني و تقرع طبلتي أذني و ترغمني على الابتعاد أكثر فأكثر وقدماي تحملاني لأتوغل داخل الغابة..
لم أصدّق نفسي و أنا من كانت ترتعش رعبا بمجرد سماع حكايات عن الغابات وعجائبها ،ولا زلت أذكر حكاية ليلى والذئب و الثليجة البيضاء .يا إلهي ، لِم َ تعيدني ذكرياتي لهواجس بريئة من الزمن الجميل؟
علي ّ أن أنسى كل مخاوفي الآن وأستمتع بهذه الطبيعة الساحرة ومناظرها الخلابة،
وبينما أنفض عن رأسي الذكريات ومخاوف الطفولة أصبحت أتحرك بحرية وكأن شيئا ما يوجه خطاي أو أن روحا ساحرة تقودني إلى مكان ما في هذا المحيط الشاسع .
اختفت كلّ الأصوات من حولي ولم أعد أسمع إلاّ صوت البلابل وهي ترحب بي وتعزف لي أعذب الألحان ،تراقصت الأشجار على موسيقاها وعند قدميها أعشاب تداعبها الرياح تحاول بلوغها وحين تعجز تقبل أديم الارض معلنة فرحتها بموسم الجمال.
وبينما النظر والروح يتمتعان بهذه اللوحة التي أبدع الخالق رسمها ،سمعت صوتا خلف صخرة تآكلت جوانبها فاقتربت منها ورأيت كم عبثت بها يد السنين ورغم ذلك ظلت ثابتة صامدة، ترى .كم من زائر حلّ بها ورحل دون أن يولي لها أدنى اهتمام ؟!.
أرسلت بصري ليطوف حول الصخرة وكأني أبحث عن شيء بعينه ، وفجأة رأيتها تقف بشموخ وتقاسم الصخرة وحدتها و أوجاعها ، كانت جميلة إلا أن إمارات الحزن كانت بادية على محياها .سألتها ترى ما الذي جاء بها إلى هنا وهي لا تزال في ريعان شبابها وكيف استطاعت أن تعيش بمفردها و من أين جاءت بكل هذه القوة لتحمل فراق الأحبة و حرقة الشوق لموطنها الأصلي.حاولت أن أبعث فيها روح الأمل فوجدتها أكثر مني صبرا وإيمانا، أكاد أجزم أني سمعتها تقول لي : لا تبالي أنا هنا في مأمن ما دمت في حضن صديقتي الصخرة .
و على حين غفلة جذبتني يد إلى الخلف بقوة ،ارتعبت ، وقبل أن أصرخ سمعت صراخها ، كانت صديقتي تصرخ بأعلى صوتها :هل جننت .. ألم تفكري بنا ، كنا نرتعد من القلق عليك وأنت هائمة هنا في ملكوت الله .
سرت معها بجسدي بينما فكري وروحي تركتهما هناك يبددان غربة زهرة برية جذبتها الرياح لتستقر في حضن صخرة هرمة ووحيدة .