بِسْمِ اللهِ خَيرِ الأسماءِ في الأرضِ والسَّماءِ إليكَ سيّدي ، وَبَعدَ التحيَّةِ والسَّلامِ ما إنْ نظَرَتْ عَينايَ حُروفكَ ، وَقَرأ الفؤادُ عَبيرَكَ ، ووافى الزَّمانَ تِبيانُكَ ، وَعَلى الرّغمِ مِن أنَّ الذي يُبصرُ وَيقرأُ ، بل وَيَسْمعُ إنَّما هيَ الرُّوحُ ، لأنَّكَ حينَ تَسلبُني إيَّاها ، فلنْ يَعودَ هناكَ شيءٌ مِن أحَاسيسِ البقاءِ ، نظرًا وَتطبيقًا ، وَسَمعًا ، قَوْلاً وَفِعلاً ، حقيقةً وَوَاقعًا ، بل لا أذهبُ بَعيدًا لو قلتُ أنَّ العَينينِ رُبَّما تكذبانِ عليَّ – لا عليكَ – أحيانًا !، ألم تُقنعنا بأنْ نرى القمرَ قُرصًا مُنيرًا ، وأن نُبصرَ أنوارَهُ وهيَ تُصافحُ الأقطارَ وَالآفاقَ ؟، حتى إذا ما وَصَلنا إليه ( أي القمرَ ) إذا بهِ عِبارةٌ عن مثاباةٍ من حَجَر وَترابٍ وصخورٍ ، يَسْترقُ من صاحِبتِهِ الشَّمسَ بَعضَ زادٍ يتصدَّقُ بهِ علينا آناءَ الليلِ وَفسَحًا من إنبهارِ النَّهار ، أو كما قال الشَّاعرُ : سَرَقَ الضياءَ مُحَدِّثًا بالنُّورِ فإذا النَّديمُ يبوحُ بالمستورِ وَلكن أقول : ما إنْ أمعنتُ النَّظرَ يقينًا في رَوْحِ بديعِكَ والرَّيحَانِ ، حتَى سارعَ عَقيقُ الجفونِ يخطُّ بالآماقِ مُلَحًا مِن الودِّ تُنبيكَ أنَّ الذي أهديتَهُ يومًا مَعاني اليَاسمينَ ، وأيقظْتَ فِكَرَهُ بتِرياقِ المُغرمينَ ، لا زالَ يَسْكبُ مِن نَفحاتِ الوَفاءِ صُوَرًا تُعلَّقُ على جَنَباتِ الرَّوضِ الأريضِ وَعدًا وعهدًا ، وَلم يَفتأ ضميرُهُ مُراقبًا أنظارَ وَقتِكَ وَغيوثَ حُسْنكَ ، وَعسى تلوحُ مِن أقاحيكَ العِذاب ما قد أقسمْنا بهِ وَعليهِ يومًا أن يبقى المَعينَ لذكرى الزَّمانِ والمكانِ والزَّمكانِ ، نُلوِّحُ بأنفاسِهِ العطِراتِ الطيّباتِ للطيّبينَ والطَّيّباتِ ، وَنَصْدُقُ في رَشْفِ كؤوسَ الأمنياتِ ، حتى تحينُ زُلفى العروجِ على مَا كانَ بيننا منَ الممكناتِ ، وَنَسترعي بها انتباهَ المشاعرَ الحانياتِ والقوافي الخالداتِ ، فقُلْ لي : مَا سِرُّهُ هذا الحنين ** في غربةِ القلبِ الحزينِ؟ هل راءَ مِن قِبَلِ الغوالي خِلسَةً همسَ الأنين؟ سيّدي : كُلَّما دَاعَبَتْني نفحةٌ أرقُّ من نُسيماتِ الفجر الجَديد تذكَّرْتكَ ، وكلَّما عانقَ مَسْمعيَّ أثرًا مِن لحونِ البلابلِ في فناءِ جُنَينتي تذكَّرْتُكَ ، وكلما تراقصتْ ألوانُ مياسِمِ الجوريّ وحَدَقاتِ الأقحوانِ تذكَّرتكَ ، بل ما هفهفتْ بين الجوانحِ معاني الظاعنينَ إلا وذكْرُكَ وفكرُكَ ملءُ عَوارفِها تبعثُ الوصْلَ رُقيًّا . نُسقى هواها ، بالفؤادِ نراكا وَعَواطفٍ لم تغفلِ الإدراكا أيْ سيّدي : وفي لحظةٍ من رقائقِ العِرفانِ والحضورِ ، تصَّاعدُ ابتهالاتُ نبضِ الشعور ، ثمَّ تهَّابطُ حينًا تبحثُ عن كُنْهِ الوصالِ في شُرُفاتِ الأثير ، وَمعَ إيقاعِ جَرْسِ المسير هامَ النَّقشُ على بَنْدِ الجَمالِ المُستنير ، وَغصَّتْ بالمُحبِّينَ الباذلينَ أروقةُ الخوَرْنقِ وَالسَّدير ، بها يؤرّخُ الأريبُ زهوَ المَرابعِ باسمِ الرَّبيعِ ، ويشدو الأديبُ بأحلى مَطالعِ سِحر البَديع .........