(تفاعل اللاوعي مع الحالة الشعورية في كتابة النص الشعري)
قراءة نقدية لمجموعة ( أحاور الصدى) للشاعرة فاطمة الزبيدي
حين يكون الرمز المعبر عن كامن الذات واستدلالها المعنوية ، يتحول النص إلى نص تجاوري ما بين الدالة ومدلولها ، أي يحدث التقارب التأويلي لكل الدلالات التي تؤشر فكرة هذا النص بأبعادها التظاهرية والجوهرية، التي يشار إليها من خلال فعل الإشارة التكويني والتي تحدد البعد التأملي لجوهرية الجملة الشعرية المتماسكة ، وحسب دلالتها المحددة بالأنزياحات التي تعطي لها الأنساق المعنوية وقيمتها التأويلية ، وحيث تتكون سلسلة من الأبعاد البؤرية المتجاورة في المعنى والمتقاربة بالإيقاع ، وهذا يعطي إلى اللغة التوتر المتواتر والتوهج المنبعث من قصدية الدوال التي تحكم النص الشعري لدى الشاعر ، ويعتمد بناء النصوص على طاقة تخيلة الشاعر الذي يأتي بالرمز الاستبدالي لكل الحالات التي يعيشها في لحظة كتابة الجملة الشعرية ، وهذا ما ينتج الرمز المناسب المعبر عن التفاعل ما بين اللاوعي والحالة الشعورية ، التي تقارب الرموز الداخلية مع معاني الأشياء وقيمتها الوجودية في حضورية الحياة ، ويكون التعبير البنيوي، المعتمد على مقدار انفتاح الظواهر الحسية الداخلية على الوعي الذي يأتي بكل الرموز الحية التي تقارب الحس الوجودي الباطني للشاعر ، ونجد هنا الشاعرة فاطمة الزبيدي في مجموعتها ( أحاور الصدى) قد استطاعت أن تقارب إحساساتها التكوينية مع رموز المسميات في الحياة حولها ، وتبني دوالها في الجملة الشعرية على الوعي الرؤيوي الذي يكون الفكرية البصرية الانعكاسية داخل ذاتها المعرفية ، ما جعل جملها فاعلة ومنفعلة مع حركة الحياة التي تدور حولها ، لتعطي نصوصها الشعرية التي تقارب مسميات ذاتها مع مسميات الأشياء التي حدث التصادم التكويني معها ، لهذا نجد جملها تحمل أسلوبية التأثير الشعوري على المتلقي ،أي لا يحدث عندها الانشطار والغياب في تحديد المعنى التي تريد أن توصله إلى الآخرين، في الحضور الكلي للوعي الشعري في كتابة نصوصها دون زوائد أو إطناب ..
+
ص 19 نص لقطة وحكاية وردة
(سارا معا على ضفتيّ قلبيهما ... /كان يمسكُ بكفيّها حدَّ الشراهةِ /ويحتضنُ ظلها حدَّ البكاء .. /هيَّ ... /تراوحُ على نبضِ التأوهِ حالمة /تداعبُ همساته وثّباً ... /فحبالُ حكاياها ... /تمتدُ لطفولةِ السردِ /حينَ كانت القُبَّلُ كبراءةِ النَدى /والأكفُ كأجنحةِ الفراشات .)
أن تركيب الصورة من مشهدية الحياة ،التي يتكون منها الفضاء الشعر و الدلالات التي تعطي إلى النص الشعري امتداد تكويني لمنهجية الشاعر ورؤاه التي تمثل الهاجس التركيبي ما بين اللغة والإحساسات ، التي تتكون من خلال التأثر بالمحيط الخارجي والوعي الداخلي ، حيث يتحول الزمن من الزمن الثابت بالحاضر إلى زمن التذكر . والذي يعطي للحاضر أفق كبير من أتساع المسافة ما بين الحاضر والماضي الذي أصبح المخزون في الذاكرة ، تهرب إليه عندما يحدث التصادم معها في الحاضر الآني لكي تؤشر المعنى المتراكم داخلها ، حيث أن الماضي لا يمثل استباحة الحاضر بقدر ما هو مؤشر دلالي له ، لهذا نرجع له كي يعطينا القيمة المعنوية التي تكونت داخلنا منه , ولنوجد التفسير الإدراكي لكل ما يحيط بنا الآن، ونعرف المحدد لمسار الحاضر لكي نستطيع الانقلاب عليه بشكله المتغير ،ونجد هنا زمن الطفولة و الحكايات التي نشعر بها في الحاضر وما تمثله من تركيب نفسي ، لأنها امتداد حقيقي للماضي وزمنه المتكون داخلنا ، وقد يمثل القيمة الحقيقية ،التي نعيشها لأنها صارت جزء من سلوكنا الحياتي ، نتصرف ونعيش حسب ذلك الزمن من توهج المشاعر بالحب والتمسك بالأخر حد البكاء في غيابه ( سارا معا على ضفتيّ قلبيهما ... /كان يمسكُ بكفيّها حدَّ الشراهةِ /ويحتضنُ ظلها حدَّ البكاء .. /هيَّ ... /تراوحُ على نبضِ التأوهِ حالمة /تداعبُ همساته وثّباً ... /فحبالُ حكاياها ... ) فحين يحدث الفقد في الحاضر نرجع إلى الماضي ، لكي نبرر سلوكنا بالطفولة ما تمثل من البياض والبراءة وعمق بالعواطف والهاجس التكويني المرتبط بالحياة ، دون زيف أو كذب لما فيها من حكايات البراءة والزمن الأبيض في حياتنا ، (تمتدُ لطفولةِ السردِ /حينَ كانت القُبَّلُ كبراءةِ النَدى /والأكفُ كأجنحةِ الفراشات .) وأن التمسك بالبراءة والعواطف الجياشة، ما هو إلا امتداد لزمن الطفولة والذي نعيشه في سلوكنا اليومي في الحاضر، وهذا يعتمد على السلوك النفسي للشخصية التي تعيش هذا، وقد هي حددت هذا الزمن ضمن طاقتها النفسية التكوينية للزمن الآني ...
ص 58 نص " إليكَ حتماً "
(منذُ آنٍ وفراق ... /أحترق / في ضجيج صمتي /أجمع رمادي ... /أُعبؤه .../في قارورةِ أنفاسِكَ /عندَ ظلِكَ /الطالعُ همساً /ترددهُ مراياكَ /الضاحكة في إطار الذاكرة /لأشمَّ هذا المتبقي /من زنابقِ احتراقي /وأنااا ... /أغوصُ في أعماقِ أنآك /أرسمُكَ عودَ بخور /تحت قباب ولائي /أكتبكَ ... /نبضاتٍ لا تشيخ /لأولَدَ من جديد . )
وتستمر الشاعرة بالكشف عن كامن الذات من الداخل وما يحدث في الحياة من فراق وما يسببه هذا الفراق من احتراق ، حيث يتحول كل شيء إلى ضجيج ، لهذا تحاول أن تعيد الحاضر وما يمثل لها من قيمة حقيقة لحياتها ، لهذا لا تريد أن تفقدها ، فتجمع الرماد وتعبئ من كل المسميات التي تحاول أن تبعدها عن ذاتها ،و تحاول بكل وعيها الإنساني ، أن تحول هذا الرماد إلى زنابق الاحتراق ، والشاعرة هنا استطاعت أن تجمع التضاد ضمن جملتها الشعرية من خلال البناء اللغوي التركيبي المتسلسل في الدالة، لكي تحدد الإشارة التفاعلية مع المدلول ،و تبني جملتها الدلالية وحسب صياغة المعنى الموحي وفق تلقي الذاكرة الصور المخزونة داخلها ، فرغم حدوث الفراق الآن ،واحتراق كل ما موجود حولها من المعنى الذي يلامسها من الداخل ، تحاول أن تستعيد الذاكرة ، للذي حدث الفراق معه من خلال صوره الحية الباقية في ذاكرتها ( أنفاسك ،ظلك ،مراياك ،الضحكة في إطار الذاكرة) أي أنها تحاكي ما بقى في الذاكرة من تذكر لكل ما مضى،و ترك في ذاتها مع الذكريات، قد تجد فيها التعويض عن الفراق، لهذا تحاور صداه الغائب عنها ، و فقدها له بسبب هذا الفراق (منذُ آنٍ وفراق ... /أحترق / في ضجيج صمتي /أجمع رمادي ... /أُعبؤه .../في قارورةِ أنفاسِكَ /عندَ ظلِكَ /الطالعُ همساً /ترددهُ مراياكَ /الضاحكة في إطار الذاكرة /لأشمَّ هذا المتبقي /من زنابقِ احتراقي ) وهي لا تريد فقد الحياة بسبب فقده ،وهي متمسكة بالحياة وقد يكون من أجل أبنائها ، لأنها متأكدة أن فراقه ، لم يكون الحقيقة التي يريدها هو ، لأنها تمتلك الدلالات عن أنها تعرف ما بداخله ، لهذا تؤشر الأنا لكي تحدد عناصر الإحساسات المتكونة داخلها ، والمتأكدة أنها هي من تمثل حقيقته الداخلية اتجاهها ، لهذا تعطي الدالة من خلال غوصها في داخله، لأنها تعرف كيف يشعر في داخله ، لكي تبقى متمسكة في الحياة من خلال تمسكها به وبرموزه المؤثرة عليها ، إلى حد أن تجعله رمز لما سوف تعيشه من جديد حياتها وترسمه كعود بخور ، وما يمثل عود البخور من حضور تكويني في رائحة الحياة العطرة ، والحضور الوجودي في قباب ولائها الذاتي ، لكي يبقى نبضها الذي لا يشيخ ، وتولد من جديد على كل هذه الإحساسات التأكيدية على مشاعرها اتجاه من فقدته (وأنااا ... /أغوصُ في أعماقِ أنآك /أرسمُكَ عودَ بخور /تحت قباب ولائي /أكتبكَ ... /نبضاتٍ لا تشيخ /لأولَدَ من جديد . ) وهي بنت حاضرها على التذكر الترادفي المعنوي لما فقدته لكي تبقى متمسكة بالحياة ، وذلك بامتداد ذكراه ويقينها المتأكدة منه أنه لم يفارقها بسبب الرغبة الرغبة الفراق بل قد حدث الفراق الآني دون شيء مسبق أو قصد منه ،أي حدث هذا الفراق غير إيرادي وغير مصمم بل حدث صدفة دون مقدمات أي حدث بشكل آني و قد يكون الفقد المفاجئ بسبب الموت...
ص 80 نص " تميمة هُدبي "
(في صدري .... امرأة من الزمن اللايعود /رفوف رصينة , وكتب مرصوصة /زهرية في منتصف الذبول ... /صور بالأبيض والأسود... باتجاه غبار الذكريات /مخطوطات بأبهة سامقة على امتداد النسيان /شمعدان ... بعطر أصابعك /محبرة بجفاف شفتيّ /أنفاسي هابطة لجنوب القلب /حيث وقدت أنفاسك /آن لي أن أحرق أوهامي ... /أذرو رمادها في فضائك /وبعيدا أهرب ... /إلى المرافئ التي تنبض بك /في مراسيك ...)
الشاعرة هنا تؤكد أن الزمن الذي عاشته بانفتاح كلي على الحياة ، وتحاول هنا أعطاء التوصيف التذكري لشخصيتها ، من خلال الترميز لامرأة من الزمن الذي اللايعود أي أنها كانت متفردة بإنسانيتها ورصانتها في الحياة كالكتب المرصوصة ، والشاعرة هنا تبني جملتها الشعرية الاستدلالية التأكيدية من خلال التناظر المعنوي ، مع ما كنت تعيشه في منتصف العمر الذي يوحي بالذبول في زمن صورة التصوير الأبيض والأسود ، فهي دائما ترجع إلى الزمن الماضي لأنها لا تمتلك الذي حدث الفراق معه ـ أي أنها لا تمتلك الحاضر بحضوره بل غائب عنها ، لهذا تناشد كل ما يعيد الحياة لها من خلال رموزه التي بقيت حاضره في فكرها التذكري التي تزدحم داخلها بغبار الذكريات ، وهي تخاف النسيان (في صدري .... امرأة من الزمن اللايعود /رفوف رصينة , وكتب مرصوصة /زهرية في منتصف الذبول ... /صور بالأبيض والأسود... باتجاه غبار الذكريات /مخطوطات بأبهة سامقة على امتداد النسيان) مع أن كل شيء باقي وحاضر فيها لأنها لا ترى الحياة إلا من خلاله وصوره التي تعطيها الحياة لكل شيء حولها يذكرها به ، الشمعدان وعطر أصابعه ، فهو من كان يتلقيها عندما تحدث عندها أزمة ، وكان يعيد لها الحياة بكل ايجابيتها الحية فهو من كان يشعل الشمعدان بأصابعه لهذا بقيت أنفاسه متقدة في حياتها لأنه كان يتجه لها أينما تتجه ((شمعدان ... بعطر أصابعك /محبرة بجفاف شفتيّ /أنفاسي هابطة لجنوب القلب /حيث وقدت أنفاسك) أي أنه كان يمثل لها عنصر الحياة الذي يعطيها كل ما تريد تعيشه ، لكن كل شيء تحول إلى أوهام بفقده ، لذلك تريد أن تترك كل تشبثها بالحياة من خلال الذكريات وتذهب حيث ذهب ، لأن كل شيء حولها حتى الذكريات التي تعيشها الآن قد تحولت أوهام لأن غيابه قد طال ، لهذا تريد تغادر إلى المكان الذي غادر إليه (آن لي أن أحرق أوهامي ... /أذرو رمادها في فضائك /وبعيدا أهرب ... /إلى المرافئ التي تنبض بك /في مراسيك ...) والى المرافئ والمراسي التي تنبض بوجوده ،
ص 148 نص " أُحاورٌ الصدى "
(تعال لتمحو غربتي بهالة حنان /كفّاكَ هيَّ ... /أنا ... قنديلٌ ووحشةُ مطر /من شاهقِ صمتٍ , أطيلُ الوقوف على شرفةِ الضجيج /وقد أَخطَفُ الخطو هوينا ... /غمامةٌ هَطّول , تجاوزت ضفاف الرعود /جحافلٌ تمدُ أعناقها /عصيةٌ على إغواءِ النوافذ المواربة /تحلمُ بشهقةِ الصبرِ /وتصحو على مغاليق الفرج . )
تستمر الشاعرة بالحوار الذهني مع الغياب والفقد ، لأن كل شيء حولها لم يعد كما كان ، وأصبحت الغربة هي ما تعيش بسبب فقدها الحنان الذي كان يعطيها من غاب عنها ، وهي تمثل الانعكاس له في الحياة ، لأنه من يهبها القدرة على الحياة بكل اشتراطاتها الحية ،وقد أصبحت بعدة كقنديل في مكان موحش بالمطر ، والشاعرة هنا استطاعت أن تكون صورة حسية عالية التصوير حين يكون القنديل في طريق موحش لا أحد فيه سوى المطر ، وهذه دالة عالية على الوحدة التي تعيشها بعد أن فقدته ،أي أنها تحاول أن تعطي البعد الحياتي لحالة الفقد ، وهنا حدث التمازج الأستعاري المكثف بسيميائية الصورة المتكونة ما بين هالة الحنان والقنديل في طريق الموحش، والذي لا وجد فيه سوى الانطفاء في لحظة المطر ، وقد استطاعت أن تبني التصور العمودي في الفكرة المتأتية من الإدراك الرؤيوي لبصرية الفكرة ، لأنها أرتقت بالصمت الشاهق إلى العلو الوجداني المركب من كل أحساسات الوحدة التي تفجرت داخلها من فقدها له ، فلم تعد تدرك أي شيء حولها سوى ضجيج الفراغ الطاغي في حياتها ، ولم تعد تستطيع الانتظار والوقف طويلا ، وكل شيء صار الهوينى الباهت حولها (تعال لتمحو غربتي بهالة حنان /كفّاكَ هيَّ ... /أنا ... قنديلٌ ووحشةُ مطر /من شاهقِ صمتٍ , أطيلُ الوقوف على شرفةِ الضجيج /وقد أَخطَفُ الخطو هوينا ...) والشاعرة هنا استخدمت النداء (تعال ) لتبين خسارتها بفقده ، وتريد أن تعجل باللقاء به ، لكن المسافة إليه قد تجاوزت غمامة الهطول وضفاف الرعود ، أن المسافة إليه صارت بعيدة عنها ، بجحافل تمد أعناقها وهي عصية على الإغواء أي لا يمكن الوصول له (غمامةٌ هَطّول , تجاوزت ضفاف الرعود /جحافلٌ تمدُ أعناقها /عصيةٌ على إغواءِ النوافذ المواربة /تحلمُ بشهقةِ الصبرِ /وتصحو على مغاليق الفرج . ) لهذا لم تعد تمتلك سوى شهقة الصبر التي تجمعها به ، ولم تعد تريد أي شيء سوى الوصول إليه وهي لا تمتلك سوى الصبر على فقده ، لهذا بقيت تحاور صداه البعيد لأن لا يمكن أن تصل إليه إلا بفتح مغاليق الفرج ، المغاليق التي يمكن أن تفتحها إلا بالصبر والانتظار من أجل الوصول إليه .
الشاعرة فاطمة الزبيدي استطاعت أن تحقق عنونة المجموعة من خلال بيان حجم الفقد الذي أنتابها بفقد من كان يعطيها الحياة بحبة وحنانه ، وهي بهذا حققت البؤرة الخفية لعنوان المجموعة في كل نصوصها ، وقد بنت نصوص المجموعة على إدراكها التصوري ، و جعل البؤرة تنشطر بالمعنى وتحقق نصوص المجموعة من خلال العنوان المركزي .الذي أعطي للمجموعة أبعاد تحاوريه مع الفقد من خلال التدرج بالتحاور الذي كان المهيمن الروحي على تفكيرها و حركة الحياة حولها ، وبإشكال بصرية الأحداث التي بينت بها على عمق الهوة التي تحدث بعد فقد من نحب ، لهذا بنيت نصوصها بصور هندسية متجانسة، من خلال المعنى الذي يوصل إلى الدالة المركزية للمجموعة، وهي حالة الفقد وعدم قدرتها على نسيان من فقدته ،لأن كل الذين بقوا من بعده لا يستطيعون أن يعوضوا ما كان يعطيها هو من الحياة .