حين يبيت الحلم في حضن الألم...
.
.
كان فرحي يعانق السماء حين استلمت تأشيرة الدخول إلى وطني، إلى أشواقي العطشى، إلى قاموس ذكرياتي..
منذ أحد عشر عاما وأنا مشردٌ عن رحم بيتي، لم تزفني قروح الأيام شيئا عن أهلي بعد استشهاد والدي، فضمدت جراحي بمرارة الصبر. كنت أتعثر بعشوائية وأتخبط في عالم الغربة، يومي كأمسي أتجرع علقم العيش بلا استقرار.
أسرعت إلى قارورة أحلامي لأفتحها وأنثرها على أجنحة الشوق لتحلّق بي فوق مآذن الحقيقة، اليوم سأسمح لحواسي العبور من بين أروقة الخيال، حتى تتخطى لمس الحدود بكل تنهيدة وزفرة، امتلأت حقيبتي الزمنية بكل الآمال فانشرحت سرائري وسكنت جوارحي.
بقيت أداعب بنات أفكاري طوال الليل، أطرد شرورها خارج حدود تفكيري، حتى غلبني النعاس وجثم على صفحات أجفاني، كنت غارقا في سفينة أحلامي حتى سمعت المنادي ينادي لصلاة الفجر، أسرعت لأغسل آثار الأحزان وأجدد الإيمان والشكر لله بتفاؤل مفتوح الذراعين لاستقبال قبلات يومي الجديد.
ساعات قليلة ويكتمل هلال حزني فرحاً بلقاء أمي وأخواتي، والوقت ينظر ببطء شديد إلى عينيّ المحدقتين به بين الحين والآخر، بينما ضربات قلبي تدق طبول الفرح بصوت أزعج ضلوعي وهي في أزقتها الضيقة لتنثر احمرار الدم في وجنتيي.
خطواتي تسابق آثار نعالي وهي تطارد المسافات بعد أن نزلْتُ من المركبة التي تقلّني، ليكون السجود أول حضن يضمني وأشتم به رائحة الوطن، وأبلّله بغزارة الدموع الحارة التي روت أحواض شعوري المفعمة بالأمل.
ها أنا أقترب من مكان ولادتي، أبحث بجوارحي عن أحجار بيتنا من بين ازدحام العمارات وما بين ردم وتطاول في البنيان، لم أستطع تحديد هوية عنواني مع أن ذاكرتي القوية قامت باسترجاع الذكريات الماضية، ازدادت طرقات قلبي وتغيرت تضاريس وجهي وأنا أتعقب رماد البيوت وهي تعصفها الرياح الغاضبة، أحاول أن أطرد كل شائبة يمكن أن تستبدل لحظات ابتهاجي، أصابني الهذيان حتى فقدت لجام صمتي، فقلت محدثا نفسي :
أذكر أن بيتنا في هذه الحارة، لكنّي لا أعرف أين هو بالضبط، هل يمكن أن يكون هنا ؟؟!
تسارعت نظراتي وأنا أرقب المكان متفحصًا أيّ دليل يرشدني، أحسست بيد تجثو على ظهري برفق لتطرد غبار ذهولي وضباب شرودي، فانتفض كل كياني على صوت يقول لي :
ما بك يا بني، هل لي أن أساعدك ؟
إلتفت بسرعة برق لمصدر الصوت الخافت أنتظر ومضة أمل تنشلني، وإذ بعجوز قد أثّرتْ تجاعيد الحياة بقسمات وجهه،
قلت له :
يا عم هل لك أن تدلني على بيت أبو أحمد الشّامي؟
أظنه كان هنا، فلا أرى إلا حطامًا وأكوامًا من حجارة وحديد.
قال لي :
هذا هو بيته يا بني، فقد رشق بوابل من الصواريخ لينهار على أم أحمد وبناتها الثلاثة! لكن لماذا تسأل يا بنيّ، هل تعرفهم؟
انطلقت مني صرخة مدوّية نفضت جسدي وفراشي على صوت قصف شديد داخل البيت زلزل كل أركانه، وانهار جزء منه على أمي وأخواتي ليتجسد الحلم صورة الواقع، وهو يرتدي ثوب الحقيقة، لأعاود دفن أحلامي بتابوت الحياة، منتظرًا فتحه بفرج قريب من عند الله ...
.
.
.
جهاد بدران
فلسطينية