يحفل العالم بالصراعات السياسية والمنهجية والطائفية وغيرها ، فتجد دولة تسعى لتدمير دولة أخرى وتحاربها إما عسكريا أو اقتصاديا أو حتى اجتماعيا وأخلاقيا دون مراعاة الضوابط الإنسانية ،وقد تجد حزبا يسعى للقضاء على منافسه وسحقه بشتى السبل ، أو طائفة تبيد طوائف أخرى بوسائل وحشية إيمانا بأنها الطائفة التي ورثت الرسالات السماوية وانحدرت من سلالة الأنبياء .
كل ما سبق يمكن أن يصنف ضمن المُتفَهَم لأن كل من طرفي النزاع غالبا يؤمن بفكرته وله منهاجه وعقيدته والتي تسيّره وتوجهه نحو أهدافه حتى وإن كنا ضد الوسائل في أغلب الحالات .
فكثير من الأشياء يمكن تصنيفها ضمن الصراع بين الحضارات والسعي للنيل من الآخر من أجل نزعة السيطرة وهذا منطق حياتنا الوحشية بشكل أو بآخر ، أن يسعى القوي للسيطرة بشتي السبل ، لكن الغرابة تكمن في تحول الثقافة لساحة من ساحات روما القديمة يقتل فيها المثقفون بعضهم كالثيران دون وازع أخلاقي ودون مبرر منطقي ، وبدلا من أن تكون الثقافة هي العامل الأهم في مزج وتواصل الحضارات وتقريب الأفكار وتعميق التواصل الفكري والروحاني بين شعوب العالم، نجد في بلادنا من يحولها لأداة تخريبية لتدمير الآخرين ويجيّرها للمكاسب الخاصة ، ويجعل من الساحة الثقافية خرابا تنعق فيه البوم ،و ما لا يمكن تقبله هو أن تجد نسيجا واحدا يتمزق بأيدي مكوّناته ، وأن تشهد كيانا تزرع أركانه الألغام بين ثناياها فتدمر كل شيء ببلاهة غير آبهةٍ بالموروث التاريخي لبناء هذا الكيان .
لا شك أن محافل الثقافة العربية بها كثير من الصراعات والعجز عن الصعيد الرسمي وبها ما بها من فساد ولكن أيا كانت الأحوال الثقافية في تلك البلدان فهي دول مستقلة ظاهريا على الأقل ، لديهم وزارات ثقافة وهيئات رسمية تعمل وتنظم المؤتمرات والندوات والاحتفالات الثقافية على صعيد دولي ومحلي ، ولهم أساليبهم في سكك الثقافة خاصة أنهم يشرّعون أبوابهم للعالم في الاتجاهين مما يعوض حالة الشلل التي تتغلغل بين أوساط المثقفين ويستر عري تلك الجهات الرسمية .
أما الحالة في فلسطين فحدث ولا حرج ، هي حالة استثنائية بكل الصور ، وطن يرزح تحت نير الاحتلال منذ عقود، تكونت ثقافته على المقاومة وعلى تجسيد الحرية بالأقلام كوسيلة متاحة ، لكن الطابع السياسي طغى غالبا على الأدب بحد ذاته ككيان مستقل ، وقد ساءت الأحوال الثقافية بعد أوسلو خاصة على الصعيد الرسمي وتحولت لصراعات علنية بين الاتجاهات والشلل الثقافية المختلفة واستمر الانحدار بسبب فساد الجهات الرسمية المسؤولة عن الثقافة وتردي أدائها بشكل قاتل وصولا للانقسام البغيض الذي فكك النسيج الفلسطيني بالكامل. ولم تكن الثقافة حالة مستقلة يمكن تفادي تشويهها بل حدث العكس ، إذ تشوهت ثقافتنا أمام العالم وتعرضنا لانتقادات لم نكن لنتعرض لها لولا ما حدث ، وطغت ثقافة الحزب الواحد في شمال البلاد وجنوبها، وأصبح القدح والشتم والتخوين والتكفير وسائل المرحلة لدى أقلام الأغلبية في الساحة الثقافية الفلسطينية ، وفي أوج الصراعات المتعددة بين الحزبيين والمستقلين ،اليسار واليمين، وحتى المتفرجين، يقبع اتحاد الكتاب الفلسطينيين متأرجحا بين عنصرية زرعها الاحتلال بين نسيج غزة والضفة ، وبين انقسام بغيض فرضته المصالح الحزبية المقيتة ،وكلما خُلقتْ مساعٍ لتجميع شتاته ، تُزْرَعْ فيه كيانات تفرضها اللعبة السياسية فيزداد تفككا وتطغى لغة المؤامرة على لغة الاتفاق ، تمسح لغة الذم لغة الحوار ويبقى الاتحاد ، هذا الاسم الكبير الذي كان مؤسسوه من عمالقة الأدب والفكر والشعر الفلسطيني أضحى عاجزا بائسا حائرا بين صراعات أقطابه وبين تجاهل مرجعياته لأمره .
ويكتفي المسؤولون بالوعود التي لا تتحقق ويتعاملون مع الاتحاد والثقافة ككل كأنها آفة يجب التخلص منها ، يستغلون الصراعات السياسية كذريعة لإيقاف الدعم والتمويل لهذا الاتحاد ، يموّلون الضفة الغربية ببعض المال الذي يكفي بالكاد لتسيير أقل الأمور ، ويمسحون غزة من محور التزاماتهم سعيا لشل كل من يحاول أن يعمل على تفعيل الاتحاد ونشاطاته ، فنجد مقرا لم تدفع أجرته منذ أعوام ، هاتفا مقطوعا لا يمكن تسديد فاتورته ، معدات قديمة مهترئة ، جهاز كمبيوتر عفا عليه الزمن حتى تكاد لا تميز لونه يصلح للعرض في متحفٍ ما .
فما الذي يريده المسؤولون في السلطة بهذه الممارسات بحق اتحاد الكتاب الفلسطينيين ؟ ، ولماذا تمتنع اللجان المختلفة التي تشكل نسيج الاتحاد عن توحيد كلمتهم والخروج بموقف صريح واضح يفضح التقصير التام من الجهات الرسمية وتعمدهم عدم صرف مستحقات الاتحاد خاصة في غزة ؟
أم أن لدى هذه اللجان حسابات أخرى تمنعهم من كشف حقيقة الموقف !!؟، وأصبحت خلافاتهم وصراعاتهم وتهامسهم حول الوضع المزري للاتحاد والاكتفاء بالألقاب العريضة وزيارة مقر الاتحاد في المواسم السعيدة كافية لتحقيق أهداف الساعين لطمس ودفن هذا الكيان؟
لا بد من المطالبة جهرا بحقوق غزة واتحادها أدبيا وثقافيا وماليا وإلزام المسؤولين في السلطة بتجنيب الاتحاد وتحييده عن أي صراعات حزبية أو مصالح خاصة وإعادة الحياة لتدب في أركانه وتمويل نشاطاته وفق القانون والأصول ، وأيضا وفق الالتزامات الوطنية والأخلاقية تجاه الثقافة الفلسطينية والتي يجب تطويرها ودعمها لمواكبة الثقافة العالمية ، وتجييرها لخدمة شعب فلسطين وقضية تحرره ، وإثارتها في المحافل الثقافية الدولية المختلفة .
هذا ما يجب أن يكون، لا أن ينشغل الكل في صراعات وهمية للحفاظ على ألقاب زائلة لا قيمة لها دون منجزات حقيقية ، ولا أن ننجرف نحو الحزب متناسين الوطن الأم .
ويبقى الأمل قائما في أن يستفيق أصحاب الشأن المعنيين من غفوتهم ويدركوا حجم المأساة التي يتعرض لها شعبنا الفلسطيني وثقافته وتاريخه وقضيته .