منعني قلمي من ذكر اسمه ، لا خوفاً ولا خجلاً من النقد ، بل حرصاً مني لعدم إثارة جرح عميق في قلبه على واقع أخذ بالتردي والهبوط بسبب العولمة وما آلت إليه من تأثير إيجابي وسلبي انعكس هذا النمط في مجتمعنا .
كعادتي وأنا من يحب القراءة بالكتاب وأعده رفيقاً يؤنسني في غربتي ، وصديقاً وفياً أمينا ، ومعلماً مخلصاً ، أشعر بسعادة لا توصف وأنا أقلب صفحاته ، أتلمس أوراقه ، أضمه إلى صدري عندما أتعب فينام بجانبي ... إنه نعم الصاحب والصديق .
زرته في مكان تواجده ، ذلك الرواق الأدبي الذي كان يعج بأصحاب الفكر والقلم ، لاختار من مكتبته بعضاً من الكتب التي لم يحالفني الحظ سابقاً لقراءتها ، قيل لي سترينه على هذا العنوان.
أسرعت الخطى نحو المكان ، فوجدته من بعيد يفترش الشارع مع كتبه على ناصية بالقرب من الجامعة التي عشق طلابها اللقاء به وممازحته ـ وأنا من ضمنهم .
وقفت خلف جدار أراقبــه ، بدا للوهلة الأولى منهمكا مرتبكا ، لحيته البيضاء زادتـــه وقاراً ،رسم الزمن الصعب أخاديد تروي كمية الشقاء والتعب وكأنه على عداوة معه بل كأنه حكم حكمه عليه وهو الآن يقضي تلك العقوبة فبدا التعب على وجهه وكأن هموم الدنيا أثقلت على رأسه .
كان يتنقل بين كتبه ، يزيل عنها الغبار، يفتح صفحاتها ، يقلبها ، ينظر إلى السماء وكأنـــه يطلب الرزق من الله ، أو لعله يرى طائرا يحمل له بشارة من عزيز بعيد ، يناجي غيمة تظلله من حرّ تموز وتحميه من لهيب الشمس المحرقة .
يكرر دورانه حول كتبه ، يرمق عناوينها كأب حائر كيف يطمئن على فلذات كبده وهم متوسدون الرصيف لا بساط يفترشونه ولا غطاء يحميهم سوى السماء .
أخرج لفافة من صندوق صغير وضع بجانبه ، نزع عنها أوراقا من كتبه ، انتهزتها فرصة فتقدمت نحوه لأدخل عالمه عن قرب ، سمعته وهو يتمتم : ـ
الغذاء فلافل، ترى ما سيكون العشاء اليوم ؟
قبل أن ألقيت عليه التحية بادرني قائلاً : اليوم وقد انتصف النهار ، تصوري لم أتسبب بعد بثمن ربطة خبز أسكت بها جوعي وشربة ماء أطفئ حرقة جوفي .
وقف الكلام في حلقي ولم أستطع أن أرد عليه ، ابتلع ريقه مع شربة ماء ربما كانت الأخيرة التي يمتلكها ، وربما كلماته كانت يغص بها حلقه أكثر من لقمة العيش فيه .
بكل حذر سألته عن الرواق ، وهذا المجلس الأدبي الذي كان يضم النخبة من المثقفين ، بجانب مكتبة كانت تضم كل مؤلفاتك بالإضافة إلى المراجع العلمية والأدبية .
على مهل أخرج من جيبه علية فضية ذكرتني بجدي ، سحب ورقة رقيقة ، دس فيها شعيرات مـــن التبغ الأصفر، رتبها وكأنه يلمس شعر حبيبته ، بعد أن انتهى من لفها قال هذا التبغ من حديقة بيتي ، نبتة زرعتها ورعيتها وها هي أفضل عندي من السجائر المستوردة يكفي أنها من صنع يدي . أعذريني سيدتي لقد شرد ذهني منذ عشر سنوات ، بدأت ثورة التكنولوجيا تغزو بلادنا واخترقت الجغرافيا والحدود ، وسلبت عقول الشباب حتى حاصرت الكتاب والأدباء وأبقتهم أسرى الحنين إلى ذلك العصر .
في هذه الأيام ، حيث التواصل بالوسائل الالكترونية عبر أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية ، شكل واقعا حزينا لقراء الكتب واقتنائها، في الماضي القريب كان الكتاب رفيقاً للقارئ وتحفة تزين المكاتب ويتفاخر أصحابها بألوانها الزاهية قبل مواضيعها المختلفة .
فالناس نوعان : ـ
نوع يحب الكتاب لما يحتويه من المعرفة
والنوع الآخر للتباهي والتفاخر باقتنائه .
أما اليوم فلم يعد للاثنين معاً سوق لشراء الكتب .
منذ أسبوعين لبيت الدعوة وذهبت لحضور ندوة ثقافيه ، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما شاهدت محدودية الحضور من الجمهور ، لقد غاب مع غيابهم هذا الوهج والشغف الذي كنا نراه بعيون الحاضرين، في هذه الأمسية أو الندوة أستطيع أن أقول وبصدق : لقد حضر الأدباء وغاب الجمهور.
سألته : برأيك أين يكمن الخلل ؟
استدار قليلا وقال :
غياب الرموز والجمهور جزءاً من الحياة التي نعيش ، ليس في مجال الثقافة فقط ،وإنما في جميع المجالات .
انظري إلى هذه الثورات التي بدأت تنتشر في عالمنا العربي والتي وصفت بأنها ثورات بلا رؤوس لافتقادها القادة، على خلاف ما عرفته ثورات العالم قاطبة وعبر مسيرة التاريخ.
علينا أن لا ننتظر حضور أكثر من هذا العدد، لأنه مرشح للتناقص شيئا فشيئا شئنا أم أبينا ، لأنه جيل سينشأ على نمط جديد غير جيلنا الذي تجاوزه الزمن ، كما تجاوزته طبيعة العصر .
اسمح لي بأن أسألك عن جديدك اليوم ؟
في هذه المرحلة التي تمرّ بها أوطاننا بظل العولمة والتدوين ستجدين بعضا من الكتاب يطويهم النسيان ، وبعضهم يجف إبداعهم ، وبعضهم الأخر تشفع لهم أعمالهم وكتبهم ـ وانأ من ضمن هذا الآخرـ يفترشون بها الأرض ، يبيعونها وهم يشعرون كأنهم يبيعون أطفالهم ، ولكن وصمة العار تلك القائمة ستبقى ميسماً موجعاً ومؤثراً في النفس .
برأيك على من يقع اللوم : على العولمة ـ على الجيل الجديد أم....؟
وقبل أن أكمل سؤالي أخرج من جيبه لفافة سيجارته وقال :ـ
أنا لا ألوم من هم مسؤولون عن الكتّاب ، أو الأدباء ، أو العلماء ، بنيتي لقد ضاع كل شيء، لا نقابة ، لا ضمان ، لا حقوق ، لقد سقطنا وهوينا إلى الأسفل دون أن نجد أحدا يسندنا فقط بلقمة العيش أو حبة الدواء .
لف ما بقي من لفته ثم مد يده في جيبه وأخرج ما فيها ووضعه بيد سائل عابر فاجئني وقوفه بقربنا.
أدهشني وحبست دمعة في عيني ، لست أدري لماذا ، هل على حاله أم على حال السائل أم على حال أمة الكتاب .
أخذ نفساً عميقاً من سيجارته وبعد الآآآآآآآآآآآآآآآه طلبت منه مـــا كنت أبحث عنه من الكتب ،أجاب بكلام يؤكد لي بأنه ليس ببائع ، أنه أديب له العشرات من المؤلفات يبيعها من أجل لقيمات يسد بها جوعه .
لعنت نفسي بعد أن شاهدت الدموع تترقرق من عينين عميقتين لأنني نكأت جرحاً لفارس من فرسان الفكر والأدب .
وعجبت لدولة لا تقيم وزنا لأرض تلفظ أبناءها وترمي بهم إلى سراديب العتمة .
تأبطت كتبي مع ألمي ووجعي وغادرت ..
هيام صبحي نجار
كتبت بتاريخ
16/5/2011
التوقيع
وما من كــاتب إلا سيفنى … ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شي... يسرك في القيامة أن تراه
آخر تعديل هيام صبحي نجار يوم 05-19-2011 في 08:30 AM.