إن الحافز الأساسي الذي يدفع صاحب فكرة ما إلى مناقشتها مع الأغيار هو ادراكه الإنطلاقي لامكانية فهم الفكرة من لدن المتلقي أو العينة الإجتماعية المستهدفة.
التفاعل المرتكز على مبدأ الإستفادة والإفادة المتبادلتين و احتمالات الإصلاح أأمن مسار يحجز نشوب الصراعات الحادة بين طرفين أو مجموعة أطراف مختلفة. الصراع عملية منتجة، لكنه يبقى المدخر الأخير، فمن غير المسؤول أن يوصف أي نوع من الصراعات الفكرية (المادية كما اللامادية) بالعبثي. شراحيا، بنية الصراع تتسم بوجود ثلاثة مكونات رئيسية: طرفي الصراع و الحليف، و بالنتيجة يكون موقف العبثية صادرا من المنهزم أو أحد حلفائه و يكون أيضا موقفا غير شرعي نظرا لانعدام عنصر الإجماع الغائب في كل تقييم انساني لأي شكل من أشكال الصراع. رهانات الصراع ليست مرجح النقاش، إنما أريد أن أقول إن الصراع أحد أصناف الروابط التي تتركب بين الكاتب و القارى فحسب، باعتبار أن خلق الإنسجام بينهما أمر صعب.
تفاديا للإسهاب في وصف أنواع العلاقات التي يوجدها الفكر بين المعطي و المتلقي (لا ننسى دور آلية الحوار في خلق فعاليتي التلقي و الإعطاء ) فإن الكاتب يضع ذاته أمام الأفكار التي يعي أهمية وصولها إلى القارىء، فيكون بنفسه معطيا و متلقيا في نفس الوقت .
إن الكاتب هو أول قارىء ناقد لنصه، و هذا نوع آخر من الحوار، نظرا لتشكله من انسان وحيد و نظرا لكون فعاليتي التلقي و الإعطاء متزامنتين يسمى مناجاة أو مونولوجا و هو في عالم الفكر، حسبما يبدو لي ، محدد جوهري لمدى نجاح أو إخفاق الحوار.
توجد عوامل ثانوية تشارك في تكثيف الخطاب الفكري و توجيهه بسلاسة للحوار النقدي بين المهتمين وتحديدا في القضايا الإستراتيجية، تتضمن هذه العوامل الثانوية : اللغة و الخلفية المعرفية و التاريخية و الوجدانية، بيد أنها تظل أقل أولوية من عامل ممارسة الكاتب للقراءة النقدية ( وفق المستوى الممكن للتصورات المتعارف عليها لمفهوم القراءة النقدية) على كتاباته لتمكينه من رسم احتمالات كبرى عن حجم وخصوصية التفاعل الذي سيقع بين القارىء و مضمون النص
- الكاتب والثوابت
التحدي الأساسي الآخر و الذي يعترض مسيرة الكاتب أو المثقف بصورة شاملة، يتكثف في كيفيات مناقشة الثوابت (أو القيم و التصرفات المحروسة من قبل المجتمع) واخضاعها دون ضجيج مهما كان نوعه للفحص الدوري بدلالة المتغيرات.
إن الخصوصية الثقافية لكل مجتمع على حدة هي التي تخلق الأصول و الثوابت ومن الواقعي أن تتأثر الثوابت بحركة البيئة الثقافية(انسجام نسبي بين النخبة و القاعدة حول الزامية التغيير)و الأنثروبولوجية ( التغيير ارادة ترومها النخبة) التي تنتمي إليها.
على النقيض من الفعاليات الفنية و الأدبية المتسمة بالمرونة و امكانية الاحتماء بالرمز، فإن المثقف في قضية الثوابت مقيد باتجاهين منطبقين : اعادة التأكيد على صحة الثوابت أو تبني المحاولات الإصلاحية التي تقترض مرتكزاتها من التحولات الطارئة على الوسط الثقافي المنطوي على الثوابت ، و الهدف هوالمحافظة على تناغم الثوابت الجمعية ( لأن الفرد هو المسؤول عن تحيين قناعاته الشخصية انطلاقا من تحليل ذاتي لوسط النشأة) مع العالم، أي المحافظة على حياة الخصوصية الثقافية للمجتمع.
من هنا ندرك أن الكتابة ممارسة لحق الإختلاف و إن ارتبطت بموضوعات تستدعي الجرأة الحاسمة.
لنتذكر دائما أنه في الهند، إحدى الديمقراطيات المتطورة على المستوى الآسيوي، أحد المسؤولين السياسيين البارزين مر خلال احدى تحركاته بحي شعبي، و اقترب منه طفل فقير يبيع أعلام البلد، عرض البائع الرث بضاعته مقترحا ثمنا معينا للعلم، ساومه المسؤول حول الثمن، و طلب منه تخفيضه ( رغم أن الثمن كان بخسا ). التفتت أم الطفل الى المشهد فالتقطت الاعلام من يد الطفل و القتها على وجه المسؤول السياسي البارز و هي تزمجر : حتى ثمن العلم تساوم فيه؟ هذا المشهد يتكرر بكثرة في الهند و غيرها من البلدان التي أنجزت مكتسبات ديمقراطية هامة.
الملاحظة الكبرى أن الثوابت لا تختلف عن المبادىء من حيث اتصافها بالانتهازية. فهي قد تتراجع الى مستويات منخفضة أي تتعرض للتسييس أو الأدلجة، لكن التراجع يبتغي التمهيد للاقلاع. بيد أن التراجع الانتهازي للثوابت لا يمكن أن يكون مشروعا حين يصدر عن أولويات النظام السياسي. كل محاولات التغيير نحو الأفضل و التي تترتب عنها تحولات في الدين و السياسة تعتمد على مفعول التوعية الثقافية و المعرفية التي يستطيع المثقفون تدبيرها دون الحاجة إلى احداث أي توتر مع الدولة و ضماناتها الأمنية.
- الاستشراف: سمة الأديب-الظاهرة:
تحدي تطويرالثوابت المجتمعية و ترشيد تداعياتها التعبوية لا يقل حساسية عن اشكالية الاستشراف في الإبداع الادبي. يروي التاريخ الأدبي عن نبوءات ( قراءات عميقة للوقائع) ، فالأدب الروسي توقع نهاية النظام القيصري و اندلاع ثورةالبلشفيين قبل أكثر من قرن على حدوثها، فضلا عن مساهمة روايات الخيال العلمي في دفع العقل الرياضي نحو طموحات غزو الفضاء و مكننة الحياة البشرية و افتتاح عصر الهندسة الوراثية.
هذه الإنجازات العظيمة للعلم تعود الى صفحات روايات أدبية لأدباء عمالقة لم يكن للعرب نظرا للإهتمامات الذاتية و النزعات الميثولوجية المتطرفة و أحيانا الجنيالوجية دور يذكر فيها .
لقد شهد مطلع القرن العشرين عند العرب طفرة في الدراما و الشعر الإحيائي، انقلبت فيما بعد الى تجارب ذاتية معزولة، تداري عجزها عن المشاركة في الواقع العلمي بمحاكاة المعاناة العاطفية في أماكن مضطربة، آن موعد فهم أن الآلام العاطفية تزول بدلالة التقدم العلمي و التكنولوجي الذي يستفيد من المخيال الأدبي و الفلسفي.
يبدو لي أن المنحى الوجودي الانعزالي الذي تخلى عنه الغرب منذ أكثر من قرنين من الزمان ينفجر تدريجيا في المشهد الأدبي العربي - المشرق تحديدا - ، و هذه علامة عجز فارقة
آخر تعديل هشام البرجاوي يوم 08-09-2011 في 01:25 AM.