صورة البطل في رواية «الصهبة» لمحمد جبريل
-----------------------------
صورة «منصور سطوحي» في رواية «الصهبة» لمحمد جبريل
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
..........................
(1)
«منصور سطوحي» بطل رواية «الصهبة» (1990م) طالب بكلية العلوم، لم يختر الكلية، وإنما اختارها له أبوه صاحب السلطة الأبوية القاهرة. الذي يُريد أن يكون ابنه نسخة منه.
والقارئ للرواية يُلاحظ ـ على امتداد صفحاتها ـ أن الأب تعمّقت في داخله مفاهيم «السيطرة الأبوية» عن طريق القهر والقوة، وهو يريد إلغاء الطرف الآخر وإقصاءه ـ الذي هو ابنه ـ .
ويموت الأب، ولكن الأم تحاول أن تُذكِّر «منصور سطوحي» بسطوة أبيه دائماً، وتستحضر جبروته الخفي حتى يظل حاضراً في صفحات الواقع المعيش.
لقد هجر «منصور سطوحي» كلية العلوم ـ التي اختارها أبوه، والتي لم يحبها هو في بومٍ ما ـ ويُريد أن يُدير المكتبة التي تركها أبوه، واستمر إغلاقها تسعة أشهر بعد وفاته، كما يود أن يغير اللافتة، ولكن أمه ترفض.
ويلتقي «منصور سطوحي» في المقهى ـ الذي يقضي فيه أمسياته ـ ببدر المنشاوي (الموظف بأرشيف الحقانية)، وجابر محجوب (ميكانيكي سيارت بشارع قبو الملاح)، وحسن الهُن (بقصر ثقافة الأنفوشي).
يسمع «منصور سطوحي» من صديقيه طقوس «الصهبة»: «إن المرأة التي لا تُنجب، والتي يشق عليها الإنجاب تقف في المزاد، حتى يُرفع النقاب فيزول العقم»(1).
نادت الصهبة البطل «منصور سطوحي» فاستجاب لها، ودخل المزاد، وفاز به، وكانت طقوس «الصهبة» التي نظّمت هذا الاحتفال الحاشد تفرض على «منصور سطوحي» بعد رفع النقاب أن يمضي بالمرأة خطوات، ثم يتركها. ولكنه نسي هذه الطقوس حينما رفع النقاب فرأى المرأة جميلة:
«الوجه كان كالجنة، ليست من السيالة ولا بحري، ولا من الحياة نفسها، كأنها تنتمي إلى عالم السحر الذي يجوس داخله»(2).
ويفقد «منصور» المكبوت دائماً من أبيه ـ قدرته على السيطرة على ذاته، فيقيل المرأة في ثغرها، ويطوقها بساعدي الحنين فلا تستطيع فكاكاً منه، ويخيم الوجوم ـ الممزوج بالدهشة المُباغتة ـ على المتفرجين الذين كانوا يُشاركون في طقوس «الصهبة» ، ولكنهم لا يُحاولون أن يمنعوه من فعلته الشنعاء التي ارتكبها، أو أن ينتزعوا المرأة من بين أحضانه، وحين يفوق من غاشية السحر التي أصابته يتراجع إلى الخلف، فيفسحون له الطريق، ويترك الساحة إلى شارع «حداية».
«تراجع إلى الخلف فأفسحوا لـه الطريق. عدّل من وقفته وسار إلى الأمام فانفرجت اللمة الصامتة، سار بخطوات متثاقلة كأنه يجر خوف الحياة كلها .. بدت المسافة من منتصف الساحة إلى أول شارع «حداية» بعيدة، أو أنها المستحيل. ماذا يفعلون لمن يُخالف ما توارثوه؟ ولماذا تركوه حتى أنهى ما فعل؟ ومن أين تأتي الضربة المُقبلة؟»(3).
لقد قلب طقس «الصهبة» حياة «منصور سطوحي» رأساً على عقب «فهو يعيش ـ منذ هذه اللحظة ـ حياة المُطارَد الذي لا يدري من أين ستأتيه الضربة المنتظرة؟. إن الشك بدأ يسم حياته وحس التهديد الخفي لا يُبارحه، وفي أحلامه تزوره هذه المرأة المجهولة ، فتلاقيه في الميناء الشرقية مرتدية الملاءة وإن خلعت النقاب. وتُوافيه في منامه فيصحو وهو لا يدري إن كان ذلك حقا أم خيالاً. ويلتمس العون من الشيخ عرفة الدجيش إمام المسجد، ومن أصدقائه، ولكن لا أحد يستطيع أن يُنقذه مما يُعانيه، فيقدم بلاغاً لنقطة شرطة الأنفوشي، بناءً على اقتراح من أخته «منيرة»:
ويفاجئه الضابط:
« ـ كل التحريات أثبتت أن الصهبة التي أبلغت عنها من شغل خيالك ..
بحلقت عيناه:
ـ لكنني شاهدتها بنفسي ..
هز الضابط رأسه:
حتى روّاد المقهى نفوْا أنهم حادثوك في الأمر من أصله ..
لم يخف دهشته:
ـ بدر المنشاوي وجابر محجوب؟.
قاطعه الضابط:
ـ وحسن الهن .. وغيرهم .. أجمعوا على أنهم لم يروا شيئاً .. ولم يُحادثوك في أي شيء مما تصورته ..
أهمل ما حرص عليه من تأدب:
ـ أنا لم أتصور! .. كل ما رأيته صحيح .. وشاهدته ..
صاح الضابط:
ـ هل تتعاطى شيئاً؟ ..
قاوم انفعاله:
حتى السيجارة لا أدخنها ..
تخلل صوت الضابط رنة سخرية:
ـ إذن تغط جيداً قبل أن تنام! .. »(4).
فارق «منصور سطوحي» صديقيه بدر المنشاوي وجابر محجوب، وقرر أن يقطع علاقته بالجميع «فلا يفتح المكتبة، ولا يتردد على المقهى، يُلازم حجرته، فلا يهجرها»(5).
ولكن طقوس الصهبة تُطارده.
فما أن اتخذ قراره، حتى طاردته في عقر داره، وهذا النص يكشف ذلك:
«لما سلّم وأولى الطريق ظهره، كان قد اتخذ قراراً بأن يلزم البيت لا يُغادره، لا يرى أحداً ولا يراه أحد. تعالت زغاريد وأصوات طبول ومزامير ونايات ودفوف ودربكات وشخاليل. تصوّر ـ لفرط اقترابها ـ أنها في داخل الشقة.
انتطر من فراشه.
جرى إلى الصالة، أمه ومنيرة وماجد غلبتهم الحيرة فاكتفوا بتبادل النظرات.
قال:
ـ هذه أصواتهم ..
تساءلت الأم:
ـ من هم؟
همس:
ـ الصهبة»(6).
وتنتهي رواية «الصهبة» بانجذاب «منصور سطوحي» إلى «الصهبة» ثانية، وتتساءل الأم: هل انجذب؟ في حين «يهمس في أعماقه هاجس: لكي تفر مما يشغلك، اقذف بنفسك داخله»(7).
(يتبع)