علي محمود طه
(1901- 1949)
ولدت في الثالث من أغسطس سنة 1901 بمدينة المنصورة عاصمة الدقهلية لأسرة من الطبقة الوسطى وقضيت فيها صباي . حصلت على الشهادة الابتدائية وتخرجت في مدرسة الفنون التطبيقية سنة 1924م حاملاً شهادة تؤهلني لمزاولة مهنة هندسة المباني . واشتغلت مهندساً في الحكومة لسنوات طويلة ، إلى أن يسّر لي اتصالي ببعض الساسة العمل في مجلس النواب .
وقد عشت حياة سهلة لينة أنعم فيها بلذات الحياة كما تشتهي نفسي الحساسة الشاعرة . وأتيح لي بعد صدور ديواني الأول " الملاح التائه " عام 1934 فرصة قضاء الصيف في السياحة في أوروبا أستمتع بمباهج الرحلة في البحر وأصقل ذوقي الفني بما تقع عليه عيناي من مناظر جميلة .
وقد احتللت مكانة مرموقة بين شعراء أربعينيات القرن العشرين في مصر منذ صدر ديواني الأول " الملاح التائه "، وفي هذا الديوان نلمح أثر الشعراء الرومانسيين الفرنسيين واضحاً لا سيما شاعرهم لامارتين . وإلى جانب تلك القصائد التي تعبر عن فلسفة رومانسية غالبة كانت قصائدي التي استوحيتها من مشاهد صباي حول المنصورة وبحيرة المنزلة من أمتع قصائد الديوان وأبرزها.
وتتابعت دواويني بعد ذلك فصدر لي :
1** ليالي الملاح التائه (1940)
2** أرواح وأشباح (1942
3** شرق وغرب (1942)
4** زهر وخمر (1943)
5** أغنية الرياح الأربع (1943)
6** الشوق العائد (1945)- وغيرها.
وقد كان التغني بالجمال أوضح في شعري من تصوير العواطف، وكان الذوق فيه أغلب من الثقافة . وكان انسجام الأنغام الموسيقية أظهر من اهتمامي بالتعبير.
وقد قال صلاح عبد الصبور في كتابه ( على مشارف الخمسين ": قلت لأنور المعداوي: أريد أن أجلس إلى علي محمود طه. فقال لي أنور : إنه لا يأتي إلى هذا المقهى ولكنه يجلس في محل " جروبي " بميدان سليمان باشا. وذهبت إلى جروبي عدة مرات، واختلست النظر حتى رأيته .. هيئته ليست هيئة شاعر ولكنها هيئة عين من الأعيان . وخفت رهبة المكان فخرجت دون أن ألقاه)
ولم يسعفني الزمان فقد مت في 17 نوفمبر سنة 1949 إثر مرض قصير لم يمهلني كثيراً وأنا في قمة عطائي وقمة شبابي ، ودفنت بمسقط رأسي بمدينة المنصورة . ورغم افتتاني الشديد بالمرأَة وسعيي وراءها إلا أنني لم أتزوج .
وأعدُّ من أعلام مدرسة "أبولو" التي أرست أسس الرومانسية في الشعر العربي.. يقول عني أحمد حسن الزيات:
( كان شابّاً منضور الطلعة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا يبصر غير الجمال، ولا ينشد غير الحب، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك!!(
ويرى د. سمير سرحان ود. محمد عناني أن ( المفتاح لشعري هو فكرة الفردية الرومانسية والحرية التي لا تتأتى بطبيعة الحال إلا بتوافر الموارد المادية التي تحرر الفرد من الحاجة ولا تشعره بضغوطها.. بحيث لم يستطع أن يرى سوى الجمال وأن يخصص قراءاته في الآداب الأوروبية للمشكلات الشعرية التي شغلت الرومانسية عن الإنسان والوجود والفن، وما يرتبط بذلك كله من إعمال للخيال الذي هو سلاح الرومانسية الماضي.. )
وكنت من أوائل من ثاروا على وحدة القافية ووحدة البحر، مؤكداً على الوحدة النفسية للقصيدة، فقد كنت أسعى - كما يقول الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه ثورة الأدب - أن تكون القصيدة بمثابة "فكرة أو صورة أو عاطفة يفيض بها القلب في صيغة متسقة من اللفظ تخاطب النفس وتصل إلى أعماقها من غير حاجة إلى كلفة ومشقة.. كان علي محمود طه في شعره ينشد للإنسان ويسعى للسلم والحرية؛ رافعاً من قيمة الجمال كقيمة إنسانية عليا..
وأعد من أبرز أعلام الاتجاه الرومانسي العاطفي في الشعر العربي المعاصر ، وقد صدرت عني عدة دراسات منها:
1. كتاب أنور المعداوي " علي محمود طه: الشاعر والإنسان "
2. كتاب للسيد تقي الدين " علي محمود طه، حياته وشعره
3. " كتاب محمد رضوان " الملاح التائه علي محمود طه "
وقد طبع ديواني كاملاً في بيروت .
نماذج من شعري
فلسطين
أخي جاوز الظالمون المدى= فحَقَّ الجهاد وحَقَّ الفدا
أنتركهم يغصبون العروبةَ=مجد الأبوة والسؤددا
وليسوا بغير صليل السيوفِ=يجيبون صوتاً لنا او صدى
فجرد حسامك من غمده=فليس له بعد ان يغمدا
أخي أيها العربي الأبيُّ =أرى اليومَ موعدنا لا الغدا
أخي اقبل الشرق في أمة =تردّ الضلالَ وتحيي الهدى
صبرنا على غدرهم قادرينَ =وكنا لهم قدراً مُرصَدا
طلعنا عليهم طلوعَ المنونِ =فطاروا هباءً وصاروا سُدى
اخي قم إلى قبلة المشرقين =لنحمي (فلسطين) والمسجدا
أخي ان جرى في ثراها دمي =واطبقت فوق حصاها اليدا
ففتش على مهجة حرةٍ =ابت ان يمرّ عليها العِدا
وقبلّ شهيداً على ارضها =دعا باسمها اللهَ واستشهدا
فلسطين يحمي حماك الشباب =وجلّ الفدائي والمفتدى
فلسطين تفديك منا النفوس =فإما الحياة وإما الردى
......................
الجندول
اين من عيني هاتيك المجالي= ياعروس البحر , ياحلم الخيال
اين عشاقك سمار الليالي =اين من واديك يامهد الجمال
موكب الغيد وعيد الكرنفال= وسرى الجندول في عرض القتال
بين كأس يتشهى الكرم خمره =وحبيب يتمنى الكأس ثغره
التقت عيني به أول مره =فعرفت الحب من أول نظره
أين من عيني هاتيك المجالي= ياعروس البحر , يا حلم الخيال
مر بي مستضحكا في قرب ساقي= يمزج الراح بأقداح رقاق
قد قصدناه على غير اتفاقِ= فنظرنا , و ابتسمنا للتلاقي
وهو يستهدي على المفرق زهره =ويسوي بيد الفتنة شعره
حين مست شفتي اول قطره =خلته ذوب في كأسي عطره
أين من عيني هاتيك المجالي =ياعروس البحر , يا حلم الخيال
ذهبي الشعر , شرقي السماتِ =مرح الأعطاف , حلو اللفتاتِ
كلما قلت له : خذ . قال : هاتِ= ياحبيب الروح يا أنس الحياةِ
أنا من ضيع في الاوهام عمره =نسي التاريخ أو أنسي ذكره
غير يوم لم يعد يذكره غيره =يوم ان قابلته أول مرة
أين من عيني هاتيك المجالي =ياعروس البحر , ياحلم الخيال
قال: من اين ؟ وأصغي ورنا= قلت : من مصر , غريب ههنا
قال : ان كنت غريبا فأنا= لم تكن فينيسيا لي موطنا
أين مني الان أحلام البحيرة =وسماء كست الشطآن نضره
منزلي منها على قمة صخره =ذات عين من معين الماء ثره
أين من فارسوفيا تلك المجالي =يا عروس البحر , ياحلم الخيال
قلت, والنشوة تسري في لساني:= هاجت الذكرى , فأين الهرمان
أين وادي السحر صداح المغاني؟= أين ماء النيل ؟ أين الضفتان
آه لو كنت معي نختال عبره =بشراع تسبح الأنجم اثره
حيث يروي الموج في أرخم نبره =حلم ليل من ليالي كليوبتره
أين من عيني هاتيك المجالي= يا عروس البحر , ياحلم الخيال
ايها الملاح قف بين الجسورِ= فتنة الدنيا وأحلام الدهور
صفق الموج لولدان وحورِ= يغرقون الليل في ينبوع نور
ماترى الأغيدَ وضاء الاسره؟ =دق بالساق وقد اسلم صدره
لمحب لف بالساعد خصره؟ =ليت هذا الليل لا يطلع فجره
أين من عيني هاتيك المجالي= ياعروس البحر , ياحلم الخيال
رقص الجندول كالنجم الوضي= فاشد ياملاح بالصوت الشجي
وترنم بالنشيد الوثني= هذه الليلة حلم العبقري
شاعت الفرحة فيها والمسره =وجلا الحب على العشاق سره
يمنة مل بي على الماء ويسره =ان للجندول تحت الليل سحره
اين يافينيسِيا تلك المجالي؟= أين عشاقك سمار الليالي ؟
أين من عيني يامهد الجمالِ ؟= موكب الغيد وعيد الكرنفالِ؟
وقد لحنهما وغناهما الموسيقار محمد عبد الوهاب