أخاذا و مرعبا خلال منازلاته و خطيبا مفوها، استخدم الحسن الثاني سعة اطلاعه و تقييمه الحاد للسايكولوجيا البشرية كي يرسم انطباعا مبتسما عنه لدى الغرب و كي يستهوي الشعب المغربي. كلماته المنتقاة بعناية دقيقة ما زالت صاخبة و حائزة على اهتمام الصحافة، شموعا مضيئة لحٌكم امتد ل 38 عاما مستمزجا الأمر و النهي...و البروباغاندا.
كان الحسن الثاني مهووسا باللقاءات و المؤتمرات الصحفية. إعادة قراءة ندواته و خطاباته تتيح رسم تاريخ البلاد المغربية. أجاد الملك الراحل استعراض الجوانب المشرقة من وطنه و من شخصيته، فكانا كائنا واحدا غير قابل للتجزيء، مستنيرا بالأفكار المستمدة من كتابات الفيلسوف و العالم الفرنسي بليز باسكال التي من المفترض أنه كان يحرص على قراءتها قبل الخلود إلى النوم. في مواجهة الصحافة الأجنبية ( كان يفضل الفرنسية منها ) أدمن الحسن الثاني الحديث عن مداركه و عن ثقافته مستعملا لغة فرنسية راقية و موغلة في الدلالات.
بدا الملك دائما مستمتعا بإحالة مُحاوريه إلى مفكرين قدامى، كشارل مونتسكيو و الكاردينال دي ريتز من أجل تفسير المنظر السياسي المغربي، و بدا أيضا مهتما بتبخيس الاعتداءات ضد حقوق الإنسان.
رغم الأمية المستشرية في المغرب، فملكه يمتلك إدراكا شاملا عن التاريخ و الحضارة الفرنسيين، هذا ما تغيى الحسن الثاني زرعه في أذهان الصحفيين الذين استفادوا من فرصة استجوابه.
اعتبر الحسن الثاني نفسه مُلما بأوضاع شعبه الوفي، بأحلامه و بواقعه، يفصل له قميص نومه، و يوجهه بقسوة الأب نحو السلوك القويم، يلقي بمحاوره نحو تعقيدات أسلوبية و خطابية و معرفية و حينما يشعر بتلاشي مفعول خطابته الفارهة، لا يتردد الملك في الكذب فالتبرير المتواصل أو المتناهي إلى الرتابة، ايذان بالضعف.
بعون الله أستلم الحُكم ( أول خطاب للعرش مؤرخ في 03 مارس 1961)
منذ اعتلائه العرش، أظهر الأمير مولاي الحسن رغبة ملحة لبناء دولة منسجمة مع نظرته إلى الموجودات حيث تأرجح أسلوبه في تدبير الشأن العام بين الله و السلطة، فغدا أمير المؤمنين و القائد الأعلى للجيش و مصدر جميع السلطات. هو الدولة و هو الاسلام و هو كل شيء.
كان من الضروري إعدام مُدبري الانقلاب فورا ( ندوة صحفية عقدها الملك بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في مدينة الصخيرات سنة 1971 )
نجا الحسن الثاني للتو من أولى محاولات الانقلاب على حكمه. في غمرة احتفاله بعيد ميلاده ال42 داخل قصر الصخيرات الباذخ، اقتحم 1200 جندي يديرهم الجنرال محمد المذبوح و الكولونيل اعبابو القصر الملكي السعيد، فنسفوا و قتلوا و أذاعوا الخوف القارس.
لم يتوقع الحسن الثاني أن يصدر تصرف مماثل عن " قواته المسلحة " و لم يستوعب إقدام " جنوده المخلصين " على تهديد مكانة ملكهم و قائدهم الأسمى.
وريثا لدولة الأشراف العلويين ( نسبة إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، أحد أقارب النبي محمد و زوج ابنته ) الذين اشتهروا بجز أعناق الخونة، كمن الانتقام بين ضلوع الحسن الثاني. ذكر إجناس دال نقلا عن القيادي في حزب الاستقلال امحمد بوستة قول الحسن الثاني إن الانقلابيين قد ألحقوا إهانة جسيمة بسمعته لا يكفي الاعدام بالرصاص لإزالة آثارها، لابد أن يدفعوا الثمن ببطء ممل مثلما تذوب قطعة السكر في الماء المتجمد. توصيف الحسن الثاني لشعوره المكفهر حُيال الانقلابيين تحضير مسبق لبناء معتقل تازمامارت الرهيب. لقد اعتاد الحسن الثاني على استرجاع نصائح والده، لكنه لم ينصت إلى إحداها على الأقل ذلك أن الملك محمد الخامس أوصاه بحذف كلمتين من قاموسه : الضغينة و الانتقام.
تهيأ أوفقير ( الجنرال الذي أدار الانقلاب الثاني ) لتنصيب ولي العهد ملكا رغم حداثة سنه و ارتكاب الفظائع باسمه فيما بعد. ( خطاب الملك بعد محاولة الانقلاب الثانية الفاشلة سنة 1972)
تسرب الحسن الثاني مجددا فائزا من محاولة انقلابية ثانية تزعمها العسكري المقرب إليه الجنرال محمد أوفقير و بادر إلى ايراد الآلام التي سببها له " جيشه المخلص " و تحديدا الرجل الذي منحه ثقته المطلقة : أوفقير، الرجل الذي لن يغفر له خيانته و " نكرانه للجميل " مثلما شاء الحسن الثاني، أستاذ الكلمات المثقلة بالمعاني، أن يصف الجنرال الانقلابي. كلما التقى الملك صحافيين لإماطة الغموض عن ماضيه السياسي، تفادى ذكر أوفقير فأغلب الضباط الذين خططوا للإطاحة به أقسموا على الولاء لعرشه أثناء مراسيم زيارة المسجد الحرام في مكة. حاول الملك تبرير ما ارتكبه جنوده برزوحهم تحت تأثير المخدرات، بيد أنه لم يتوان في إزهاق أرواحهم، جزاء وفاقا لما أسلفت أياديهم.
كلما تضاءل حديثنا عن بوعبيد، كلما كان ذلك أفضل ( ندوة صحفية في باريس يناير 1982)
تعرض عبد الرحيم بوعبيد، زعيم حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، للنفي إلى مدينة ميسور استنادا إلى قرار أصدره الحسن الثاني بعدما أبدى الزعيم الحزبي اعتراضه على أي مشروع استفتاء حول الصحراء المغربية و هو المقترح الذي نافح عنه الحسن الثاني إبان مؤتمر منظمة الإتحاد الافريقي المنعقد في نيروبي سنة 1981. و على الرغم من قرار النفي، فقد كان الحسن الثاني يدخر تقديرا ملحوظا للرجل إذ صنفه بين " رجالات الدولة "، تقدير مبني على النقيض من تقييمه للمهدي بن بركة الذي اعتبره الملك مشاغبا انفعاليا.
احتج أعضاء حزب الإتحاد الاشتراكي على قرار نفي زعيمهم و انسحبوا من البرلمان كي يقول الحسن الثاني إنه لو كان وكيل الملك لبادر إلى متابعتهم بدعوى عدم احترام المسؤوليات التي من أجلها انتخبهم الشعب ممثلين له.
خلال تلك الأوقات، غادر فاليري جيسكار ديستان، صديق الملك، قصر الإليزيه تاركا إياه لرئيس الجمهورية المنتخب الاشتراكي فرانسوا ميتران.
افترض متابعو الشأن المغربي دنو ميقات الربيع الحقوقي ، نشبت أعمال شغب في مدينة الدار البيضاء سنة 1981 فتعرضت صورة الملك لدى الغرب لانتكاسة قوية، بيد أنه كلما حاول الإعلاميون الحديث عن ممارسات نظامه المناهضة لحقوق الإنسان، يرد الملك بالحديث عن " أحداث ال22 من يوليوز " مقتديا بفرنسيي تاريخئذ الذين حرصوا على الحديث عن " أحداث الجزائر " لإخفاء كلمة " حرب ".
تشكل لدي اعتقاد جازم بأن القذافي منشق عن الإسلام ( ندوة صحفية في باريس، يناير 1982)
لم يتمكن الحسن الثاني من فهم شخص القذافي على الرغم من الشحنة العاطفية التي ظللت الصراعات و المصالحات التي جمعتهما حيث أن الملك يتهم الكولونيل، إضافة إلى تهم أخرى، بتكوين البوليزاريو. تبعا لذلك، رضخت العلاقات بين ليبيا و المغرب لتطورات العلاقة الشخصية المتلبدة طورا و المتناغمة طورا بين الملك و الكولونيل بدل أن ترضخ لمستلزمات العلاقة بين دولتين ناضجتين.
اعتمر الحسن الثاني ثوب أمير المؤمنين كي يلقي اللعنة على القذافي معتبرا أن المسلم الذي يطوف حول الكعبة المشرفة حاملا كتابه الأخضر بيمينه و كتاب الله بشماله لا يمكن أن يكون إلا منشقا، يواصل الحسن الثاني " فتواه " مشيرا إلى أنه يجوز تشبيه المنشق بالمرتد.
==================
ترجمة هشام البرجاوي
المقال الأصلي أعده و نشره لفائدة مجلة تلكيل الناطقة باللغة الفرنسية كل من الصحافيين كريم البخاري و حسن حمداني و أحمد نجيم، العدد رقم : 298
التوقيع
لا تأكلي الشمس...فما في حوزتي سوى كلمات و وردة ...هي لك
آخر تعديل هشام البرجاوي يوم 09-06-2011 في 02:34 AM.