أتوق إلى فمك، صوتك، شعرك
للشاعر التشيلي بابلو نيرودا
ترجمة نزار سرطاوي
لا تذهبي بعيداً، ولا حتى ليوم واحد
لا تذهبي بعيدا ، ولا حتى ليوم واحد ، لأنَّ –
لأنَّ – لا أعرف كيف أقولها: اليوم طويل
وسوف أكون في انتظارك، كما هو الحال في محطة فارغة
حين تكون القطارات متوقفة في مكان آخر، نائمة.
لا تتركيني، حتى لساعة واحدة، لأنه
حينئذٍ ستجري كل قطرات الألم الصغيرة معاً،
والدخان الذي يطوف باحثاً عن مسكن سينجرف
إلى أعماقي، ليخنق قلبي المفقود.
أوّاه، أدعو ألّا تتلاشى أبداً صورة ظلك على الشاطئ ؛
ألّا يرفَّ جفناك أبداَ في المسافة الفارغة.
لا تتركيني لثانيةٍ واحدة، يا أحبَّ الناس إليّ،
لأنه في تلك اللحظة ستكونين قد ابتعدتِ إلى الحد
الذي يجعلني أهيم على وجهي تائهاَ في كل أنحاء ألأرض متسائلاً
هل ستعودين؟ هل ستتركينني هنا أحتضر؟
دعني أساعدك استاذنا فأنا من عشّاق نيرودا( كوكب البدري)
بابلو نيرودا / الثوري العاشق
ولد( نفتالي ريكاردو رييز ) بابلو نيرودا في الثاني عشر من تموز عام 1904 في قرية بارال بوسط شيلي لأم تعمل في مجال التدريس ( روزا نفتالي) اما والده ( جوزيه كارمن ) فكان عاملا بسيطا في سكة الحديد . وبعد شهرين من ولادته توفيت امه .
بدات ابداعاته الشعرية في الظهور عام 1917 بأسمه الحقيقي نفتالي رييز عندما كتب قصيدة عيناي .
في عام 1920 اختار لنفسه اسما جديدا هو بابلو نيرودا في قصيدته جزر غريبة . وفي عام 1921 سافر الى سانت ياغو ليدرس اللغة الفرنسية وفي العام ذاته ظهرت قصيدته " أغنية العيد " التي فازت بالجائزة الولى في مسابقة اتحاد الطلبة . واشترك هذا الشاعر الرومانسي الحزين في العام ذاته في المظاهرات الثورية التي اندلعت في البلاد وذلك قبل ان يصدر ديوانه الثاني " الغسق " الذي باع من اجله اثاث منزله وساعة اليد التي اهداها له والده .
يعد ديوان " عشرون قصيدة حب وأغنية لليأس " أول ديوان حقيقي له حيث ترجم الى اللغة الانگليزية مما جعله اكثر كتبه انتشارا :
يلفني خصرك الضبابي
صمتك يطارد ساعاتي المعذبة
وأنت ذراعان من حجر شفاف
تعشش فيهما أشواقي الخضراء
وترسو قبلاتي
آه! صوتك الغامض يخضبه الحب
ويحنو في المساء رنانا فانيا
في قلب الزمان علي الحقول
رأيت السنابل تنحني في فم الريح
وفي عام 1933 تم تعيينه سفيرا في الارجنتين بعد ان ترك دراسة اللغة الفرنسية وتخصص في الادب وزواجه من الهولندية الحسناء ماريكا عام 1930 . وفي الرابع من تشرين الاول انجب طفلته الاولى ( مارفا مارينا ) .
وبعد شهرين من ولادة طفلته تزوج زوجته الثانية الارجنتينية ( ديليا ديل مكاريل ) بعد انبهاره بها رغم انها تكبره بعشرين عاما فقد كانت تعشق الرسم والخيول خاصة وكانت حضنا وملاذا آمنا له من حالات الاكتئاب التي اصابته بعد مرض طفلته .
وقد آمن نيرودا بالشيوعية كحل ٍ سحري لكل الازمات التي تمر بها البلاد والبشرية
ويبدو أن الأفكار الشيوعية هذه قد أثرت علي الأسلوب الشعري لنيرودا فبعد أن كانت قصائده تمتاز بالرومانسية والحزن والحس المرهف أخذت القصائد تتطور لتصبح أقرب إلي السريالية التي كانت في ذلك الوقت تطغي علي المنظومة الفكرية والفنية في أوروبا كلها. يظهر هذا واضحا من خلال قصيدة نيرودا' إقامة علي الأرض' والتي امتلأت بالعديد من الصور المأساوية لما أحدثته الحضارة من دمار شامل علي الأرض وقد ظهرت هذه القصيدة عام1935 أي قبل عام واحد من انفجار الحرب الأسبانية والتي فجرت معها واحدة من أعظم قصائد نيرودا السياسية'نشيد الي أمهات المحاربين الموتي'. يأتي عام1937 ويعود نيرودا إلي شيلي تحديدا في10 أكتوبر ليكتب قصيدة' أسبانيا في القلب' والتي يقول فيها:
كنت أسكن في حي بمدريد
به أجراس
به ساعات به أشجار
منزلي كان يسمي منزل الزهور
لأن في كل ركن من أركانه
كانت تتفجر الزهور
من تحت الأرض
هل تتذكر يا رافاييل
هل تتذكر منزلي ذي الشرفات
نبض عميق من الأقدام والأيدي
كان يملأ الشوارع
وذات صباح كان كل شئ يحترق
ذات صباح كانت النيران تخرج من الأرض
وفي الشوارع كانت دماء الصغار
تجري مثل الأطفال
انظروا إلي منزلي الميت
انظروا إلي أسبانيا المنكسرة
من كل منزل ميت يخرج الحديد الملتهب
بدلا من الزهور
عندما كتب نيرودا هذه القصيدة لم يكن يعلم أنه سيواجه في العام التالي وفاة والده وكذلك زوجته الأولي والدة ابنته والتي توفيت هي الأخري متأثرة بمرضها عام.1942 في تلك الأثناء لم يكن نيرودا قد كتب شيئا يذكر خاصة في ظل الأعمال السياسية التي قام بها, لكنه سرعان ما استعاد موهبته الشعرية وكتب لنا تحفته' النشيد العام' عام1950 حيث عرض في هذا العمل الضخم تاريخ قارة أمريكا اللاتينية من منظور اجتماعي وسياسي ويؤكد أن للشعب الدور الرئيسي في التاريخ محتقرا كل الشعراء الذين يطلقون علي أنفسهم اسم الشعراء السماويين قائلا لهم:
ماذا فعلتم أنتم يا أهل جيان
يا مدعي الثقافة يا من تهتمون بالقوافي
يا مدعي الصوفية يا زيف من السحرة
ماذا فعلتم تجاه سلطة الكرب أمام هذا الجنس البشري الغامض
ويستمر التطور الشعري عند نيرودا وذلك من خلال تساؤلاته والتي دفعته اليها الرغبة في التوغل في جذور القارة اللاتينية لذلك نجده في ديوانه' أشعار القبطان' و'الكرم والريح' تخلي عن أن ينتهج أسلوبا بلاغيا وغراميا لا تشكل فيه الأسئلة عنصرا مهما وإن كان هناك تساؤل يطرح نفسه في ديوانه' استراباجاريو' وهو كم يعيش الانسان في النهاية؟
في هذا الديوان يضعنا نيرودا في قالب مختلف تماما عن كل نتاجه الشعري السابق فهو يعبر عن قلقه وعن ريبته وعن إحساسه بمحدوديته يعبر عن هذا كله من خلال الكوميديا السوداء التي تسيطر علي الديوان من أوله الي آخره
فيما أتيت أسألكم
من أكون في هذه المدينة الميتة؟
أين كنت؟
من كنت لا أفهم غير الرماد
بدءا من هذا الديوان نجد محدودية الوجود والموت هما المسيطران علي نيرودا حتي آخر قصائده فمثلا من قصيدة' صورة' من ديوان' أغان طقوسية' الذي ظهر عام1961 نجد الشاعر يتساءل:
من عاش؟
من سيعيش؟
من أحب؟
أما في' تفويض كامل' فنجده يتساءل:
في عرض الطريق أتساءل
أين توجد المدينة؟ ذهبت ولم تعد
وفي ديوان' مذكرات ايسلا نيجرا' الذي ظهر عام1964 نجده يسترجع حبه القديم لعشيقته فيقول
كيف وأين يقبع هذا الحب القديم
هل هو الآن قبر طير
أم نقطة من الكوارتز الأسود
أم قطعة من الخشب تآكلت بفعل المطر؟!
يأتي عام1968 ويمرض الكاتب بمرض يقعده عن الحركة فيكتب لنا ديوان أيدي الأيام ثم يتحفنا برائعته السيف المشتعل عام1970 ثم أحجار السماء في نفس العام وفي21 أكتوبر عام1971 يفوز نيرودا بجائزة نوبل في الأدب وعندما يعود إلي شيلي يستقبله الجميع باحتفال هائل في استاد سانتياجو ويكون علي رأس الاحتفال سلفادور الليندي الذي لقي مصرعه بعد ذلك علي يد الانقلاب الذي قاده بينوشيه وبعدها بأيام توفي نيرودا متأثرا بمرضه في23 سبتمبر1973*
منقول بتصرف