لا يتيسر لأحد أن يُحصِي في سطور نُزُرٍ مَشاينَ الغزو الامريكي للعراقِ من موبقات نفسية وقوارع اجتماعية وكوارث فكرية وفجائع
إنسانية .
إنَّ المحتلين زجُّوا بالعراقيين عقولِهم ونفوسِهم وأرضِهم في عَواثيرِ الحَرَب والنصَب ودَحائل العَطـَب والوَصَب ؛ فحَرِيٌّ بالناس أن يُجيلوا أبصارهم في محاضر المِحنة العراقية ويُبرزوا ما اشتملت عليه من جَنايا المحتلين ،. والحربُ العَوانُ الجُبارُ إنما نشِبت تِيفاقَ الحصارِ الاقتصاديِّ ولمَّا تخمُد إرَتُها بعدُ ونحن في مطلع عشرٍ وألفين ؛ إلا أن مَعرَكَ المُقارعة ومَطعَنَ الرِّماحِ بُسِطا مُذ بدأت إلى الغزو في نفوسِ العراقيين فاستعرت الحرب النفسية ، وكان وَقودَها العَوَزُ والمرض اللذان أوجدهما الحِصار العَسِر الذي رامَت به الإدارة الأمريكية نُهوكَ نفوس العراقيين ووَهْنها ؛ ابتغاءَ أن تصبح مُستودعًا تستقرُّ العَدمِية ُ فيه فلا تبقى مكانة لِشيء ولو كان نفيسًا ؛ وهذا ما يسَّر لها أمرَ الغزوِ البغيضِ والاحتلالِ الفـَجوعِ ؛ وكان لها ما أرادت .
تسعى الأمم المتحضرة – مِن لدُن النهضة الأوربية إلى يومنا هذا - تسعى حَثِيثـًا لِوِقاية العقل من إغارة الوهْم الميتافيزيقي ودَرء هَيمنته على التفكير ، وتسعى أيضًا لِتجعل قيمة الإنسان النافعة مُقدمَة ً في العِناية والاهتمام على أصْليه العَقدِيِّ والعِرقِيِّ وبهذا عَرَجَت سِراعًا إلى مَراقِي الحضارة العُمرانية ومَعانِقِ التفكير الخلاقِ ؛ ولم يقع لهم ذلك إلا بعد أن عالجوا العقلَ بصَقلِه من شَطط الخُرافة وجلائه من صَدأ التعصُّب ؛ ولكنَّ الشأن في العراقِ كان مختلفـًا ؛ فقد رأينا كيف وَكلَ الغزاةُ "المتحضرون" زمامَ العراقِ الى أحزاب ذات عين وخريطة تبدآنِ بالطائفة والعرقِ وتنتهيان بهما.
وتاللهِ إنَّ الغزاة قد بَرَعُوا في اجتباء طرائق فتلاء ؛ واستعملوها استعمالاً مَحذوقـًا في غزوهِمُ العراقَ واحتلالهم إيَّاه ؛ إذ رَوَّجُوا أشد المُخدِرات فتكـًا بالعقل والنفس وهما المخدر الطائفي والمخدر العرقي ..
وما حَلَّ هذا الخَدَرُ بالمُدَمغجين طائفيًا إلا بأنهم ظنوا أن الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ - يقتضي الكفرَ بالنفس فأهملوا عقولهم وأسلموا أمرَهم إلى غيرهم فأصابَهم ما نرى !!.
وكذلك المدمغجون عِرقِيًا ؛ ظنوا أن الحاكم متى يكن مِن قومهم وسَحنائِهم تُظلِلهم نَعماؤه وتهطِل عليهم أُعطِياتُه ؛ فكانت عاقبة ُ ظنِهم خيبة ً وحسرة..
وقد قرضتُ أبياتـًا أتمنى على كلِّ من كفر بنفسه أن يتلوها طـَرَفـَي النهار وزُلـَفـًا من الليل ؛ لعله يتدبر . { آمِنْ بعقلك} :
آمِنْ بعقلِكَ أيُّها الإنسانُ
إنَّ الحِجا لكَ جَوهَرٌ وسِنانُ
فاهْجُرْ أخاديرَ الخُرافةِ إنـَّها
تسبي العقولَ فيَظفرُ السِّرحانُ
كم خاتلٍ أغضَى الجُفونَ بهَيأةٍ
فجَنىَ الغِنىَ ، وتبيعُهُ سَغبانُ
أوَما عَلِمْتَ الفقرَ ناثرَ ذرِّهِ
في أرضِنا ، ونبيلنا مَلآنُ
فخُذ َنْ مَقاليدَ الكِياسةِ حُسنـَها
تلقَ المَرامَ ، فيُدحَرَ العَيْثانُ
كم خاملٍ باعَ الحِياضَ بدانِقٍ
فغدا السَّنِيَّ ، وعَسفـُه يَقظانُ
أفما رأيتَ القهرَ باسط َ فرشِهِ
يَعلو الأنامَ ، وفوقه غِيلانُ
فاحْطِمْ أحابيلَ الكِهانةِ غـُلـَّها
تكن ِ المُحرَّّرَ ، أيُّها الوَسنانُ
سائِلْ جُدودَك إذ لهم عِرفانُ
يُفتوك فيه ، وحالنا صِنوانُ
حِجَجًا خَلونَ التعْسُ عارِضُ شُؤمِهِ
بطريقِنا ، وعَريفـُنا مَيسانُ
آمِن بنفسِكَ أيُّها الحَيرانُ
وانهضْ بها، فنهوضُها إيمانُ
إنَّ السلامة َ لا تكونُ لِمُبْحِرٍ
ترَكَ السَّفِينَ تقودُها حِيتانُ
............................
1/ أخادير : بيوت 2/ تبيع : تابع أو خادم 3/ سغبان : جائع تعِب 4/ الذر : صِغار النمل 5/ عَيْثان : مُفسِد 6/ الغُلُّ : الطوق في العنق 7/ وسْنان : ناعس 8/ الصِنوان: الأصل الذي له فروع عِدة 9/ أحابيل: مَصايد 10/ حِجج : سنين 11/ التعْس : التعثر في المشي 12/ مَيسان : مُتبختِر في مِشيته .
...........................
لقد كان لبوش أُسوةٌ حسنة في فرعون والذين معه لمَّا أخذ بأخذه في سَوقِ الناسِ وذوحِهم إلى ما يشتهي .. وإذا كان فرقٌ بينهما فهو أن فرعون اتخذ فنون السحرة وخَتلانهم سبيلاً إلى غَرِّ بني إسرائيل فنال مُبتغاه ، وأما بوش "النبيل" فقد اتخذ هَيبَتيْ الطائفية والعرقية المَوهومتينِ في نفوسِِ الأغرار ؛ اتخذهما سبيلاً إلى غَرِّ بني حمورابي فكرَبَ أنْ يُفلِح في مَسعاه، ولا فرقَ في العُقبىَ بين سِحر يُوهِم الناسَ بأنَّ الحِبال تصير أفاعِي وبين خِداعٍ أوهَمَ أنفارًا في بدايتِه بأنَّ غزو أمريكا واحتلالها للعراقِ كانا "تحريرًا وفتحًا مبينـًا" !! لافرقَ ، فهما سِيَّان في المُؤدَّى.
وإذا أردنا المُشاكلة في اللفظ فإن الغزو الأمريكي للعراقِ كان تحريرًا من الاتحاد وزوالاً عن نِعَمة الأمنِ وفتحًا مُبينـًا للعقلِ الجمعي ، وصَعيدًا رُحابًا للديماغوجية ، ومِفتاحًا عُجابًا " لِِجنة أبو غريب وشِبْهها" حيثُ اُكرِهَ الرجالُ والنساء على الفاحشة ، ومَسرحًا مُريعًا للفِتن والمِحن والشماتة .
ومَن ظن أنَّ أُمَّ الرُّبَيْق التي نزلت بالعراقِ كان مَجلبُها طائفيًا وعِرقيـًا فقد أبعدَ النُجعَة ؛ لأن الطائفية والعِرقية كِلتيهما ما كانتا لِتخطرا لعموم العراقيين على بال ، إلا بعد إذ اجتاحَ الغزاةُ العُداة أرضَنا فأباحوا حدودَها وشرَّدوا جيشَها وشرطتـَها فوفدَت عُصَب القتل المَريدة من كل فج عميق وقريب ومِن نِحَل عِدة وثلل شتى ؛ عُصَبُ القتلِ التي طالما رعاها المحتلون العُظاةُ بعيونِهم حتى تكاثرت في أرجاءِ العراقِ فغدا شرُّها مُستطيرًا غَشِيَ الناسَ طـُرًّا ، ولم يُفِرق بينَ عراقي ونظيرِه ..
وإذا قيل إنَّ عُصَب الموت على اختلافها قد أثخنت في بَطشها بالعراقيين البُرَآء فشابهت الغزاةَ في قبح صنيعِهم ؛ فهذا حقٌ لا مِرية مِنه ؛ ولكنَّ المَأخذ والمُؤاخذة إنما ينالان مَن قرَعَ طبولَ الحرب وأوقدَ نارَها بغيرِ حقٍ قبل أن ينالا من ألقىَ فيها حَطبًا بعد احتدامِها ورقصَ حولَ مَوقدِها ؛ وإنْ كانا في الجناية سواءً .
إنّ عُصب الموت ذاتُ ألوانٍ شتى ، منها لونان معروفان مُختصِمان عَقديًا ويُكفر أحدهما الآخر إلا أنهما لمَّا آنسَا بَشاشة َ المحتلين اعتصما بحبلِهم فأصبحا بنعمتهم على وفاقٍ في التنكيل بالعراقيين ، ولنا أنْ نُطالِع ما كُتِبَ في المذاهب جُمَعَ لِنستيقن بأنَّ التكفير شِركة ٌ بين غُلاتِها ؛ فلا يَدَّعِيَنَّ أحدٌ أنَّ التكفير ومُقتضياته خَصِيصَتان رغِبَ فيهما قومٌ وزهِدَ فيهما آخرون ؛ فإنما هما ميراثٌ اقتسمه غلاةُ المذاهب بالسَّوِية ، ولا مَندوحة ههنا لأعرض أدلة هذا وشواهدَه ، ونُزولاً إلى مُنحدرات الشبكة العنكبوتية فإنها وَفراءُ بالتكفير المتبادل ، "فأمتعوا" أنفسَكم بالجَوَلان في "جنائنها المُعلقة" .
وما استعمالُ الغزاة للطائفية والعرقية إلا خُطة ٌ حَذيقة يبتغون بها طموسَ النفسِ العراقية ومَسخَها وذلك بأنْ يضطروها إلى أن تجعل نُزوعَها الجُزئي إلى أكواخ هشَّة عِوَضًا عن نزوعِها الكلي إلى العراقِ الصلد ؛ و لا يزال الناسُ على دين ملوكهم ؛ لذا سيكون رأي العراقيين مُحاكِيًا رأيَِ زعمائِهم ، سواءٌ عليهم أكان الرأي حقـًا أم باطلاً ؛ إذ يَحسبون ذلك "انتصارًا للطائفة والعرقِ" وكل ما يَعنيهم أبدًا هو قصرُ الخير لأكواخهم ، ولن يغدو النفع العام غرضًا يصبو إليه العراقيون كما اعتادوا ! وهذا مُنتهٍ إلى دوام الشِجار في "الملأ السياسي الأعلى" وإلى استشراء التصدعِ في السَّواد الاجتماعي الأشقى ؛ وقد شاع مصطلح (جماعتنا) في المصالح الحكومية كلها بَلهَ غيرَها ، ولم يَقصُرْه مُستعملوه على أصول الحِياض الكوخية وكفى بل جعلوه شائعًا في فروع الحوضِ الكوخيِّ عَينِه أيضًا ، فكلُّ حوضِ فيه جماعاتٌ وأحزاب، وسُحقـًا لمن لا جماعة له من الأراملِ واليتامى والمشردين !.
ومما ظهر مِصداقـًا للتصدعِ أنْ يُحال بين العراقي وبين الإلمامِ ببعض أرجاء العراق إلا بعهد أو كفيل يَضمنه ! وَيْ كأنَّ العراقيَّ أضحى طارئـًا في حِمى وطنه ! وإذ حالنا هذه فلا تعتابَ على أيِّ دولة استجرناها فخذلتنا مادامت أرضُنا تنفينا !
وإنَّ العقل ليَظلُ قاصِيًا عن الناسِ في مُلِمَّة كهذه وإنْ كان الصواب جَليًا ،
يقول شوبنهاور آرثر { لشدَّ ما يغيظني أن نجادل رجلاً بالأسباب والبراهينِ ثم يتضح أنه ينبغي أن نتصل بإرادته لا بعقله كي يفهم} (شوبنهاور آرثر / العالم إرادة وعَرَض ).
والإرادة إنما تنبعث من رغبة الإنسانِ لا من عقله الواعي ؛ ورغبته ناشئة من عقله الباطن المُضطرم بالعقائد الدينية والمَفاخِر العرقية ؛ وحينئذٍ يصير أمر السياسة المتقلبُ مَمزوجًا ببُركاني العقيدة والعرق المائجينِ في النفوسِ ، والعقيدةُ إيمانٌ مِيقادٌ والعِرقُ مَفخَرَةٌ مِبهاجٌ ، ولا يَفتآن يستحوذان على قلب الإنسان وعقله ، وهما مُرتبطان بالوجدان ولذا سيصبح هَينـًا أن تهيج نفوس أصحابهما غيظـًا وحَرَدًا كلما وجدت ما يُغيظها ؛ ومعلوم أن الظواهر النفسية تبدأ بمحرض وتنتهي باستجابة ؛ والمحرضات المُهيجة كثيرةٌ وفي طليعتها النِزاعان الطائفي والعرقي في المَوقِد السياسي .
يقول العلامة علي الوردي (رحمه الله) :{ أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن العقل البشري متحيز ومحدود بطبيعته ، وأن معواقات التفكيرِ الصحيحِ كالتعصب والأنانية والعاطفة ليست طارئة عليه بل هي دوافع أصيلة فيه}(علي الوردي / لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ..).
فإذا كان الإنسان قد خُلِقَ مَطبوعًا على هذا الغِرارِ ، فكيف به إذا كان فقيرًا مُعدِمًا وأُمِّيـًا عَيًا ؛ ولابَسته بواعث الهِياج الوجداني المُنبثقة ُ من عواصف المُعترك السياسي العاتية ؟! .
ولا ريب في أنَّ العراقيين قد رأوا عاقبة الطائفية والعرقية فكرهوهما وندِموا على كلِّ لحظة مَضت وهم مخدعون بهما ؛ وتلك مِئـَنـَّة ُ وَعْي ٍ طال طِلابُها وعزَّ نائلها ، إلا أنَّ هذا وحدَه غير كافٍ لإصلاح ما فسد ؛ وذلك أنَّ العراقيين ذوي الكِفاية محرومون من تولي الحُكم ومُبعدون عنه ما لم يُذعِنوا لأمر المحتلين ؛ وإذاً لو تبدل الساسة الحاكمون سيأتي ساسة آخرون يسيرون سَيرَهم على رَغمٍ . والعراقيون في الانتخابات العتيدة ؛ إمَّا ألا ينتخبوا مطلقـًا ؛ يقينـًا منهم بأنْ لا نفع من ذلك وإمَّا أن ينتخبوا ؛ فإنْ آثروا الانتخابَ فإمَّا أن ينتخبوا زعماء أكواخهم خوفـًا من أن يظفر بالحكم كوخ آخر وإمَّا أن ينتخبوا ساسة آخرين جُدُدًا ، وهنا يقفز سؤال عليه مِلاك الأمر وهو : أيرضى الساسة الحاكمون أن يتركوا الحُكم لغيرهم بعد أن ذاقوا حَلواءه ؟ أيأذنُ المحتلون بهذا ؟ لو أذِنوا لوَلوا الأدبار خائبين مَذؤمين ؛ لا يحملون معهم سوى أذيالٍ خزيٍ و وِزر ، وذلك ما لا ترتضيه "ضراغمُ البيت الأبيض" ولا ثعابينُ بني صهيون ،، وأكثر الناس لم يَفطِنوا حتى الآن إلى أنَّ المحتلين هم جوهر البلاء وغيرُهم عَرَضٌ له.
ويومَ نرى عامة الناس في عَشواء من أمرهم ؛ فذاك المظنون بهم إذ لا قدرة لهم على أنْ يَمِيزوا الخبيثَ من الطيب ولكنَّ الوَبَلة تُصيبنا لمَّا نجد عديدًا من المثقفين شِقين ، أحدهما موالٍ لسابق أو لاحق والآخر معادٍ لسابق أو لاحق ، و أصبح عزيزًا وقوعُ العين على مثقف موالٍ للعراق ولأهله البؤساء ؛ لا يشغله السابقون ولا اللاحقون ، وإنما يعنى بأمر العراقيين من قبل ومن بعد . وحُقَّ لنا في هذه الحِقبة أن نقول :{ رُبَّ جاهلٍ عَييٍّ خيرٌ من مُتعلمٍ مِنطِيق }! إنَّ الجاهل كثيرًا ما يكون أجْرَدَ القلبِ صافِيَ الذهن باقِيـًا على فطرته الأُولى وإذا سئل : ما حالك قبل الاحتلال ؟ وما حالك بعده ؟ أجاب بغير مُغالطة ولا تكلف : كنتُ شقيـًّا وأنا اليوم أشقى ! أما المثقف فقد صيَّرته ثقافته العرقية ُ أو الحزبية أوالدينية داعيًا إلى ذاك الحزب أو تلك الجماعة . والمثقف الذي يرى أنَّ العراقيين كانوا في شقاء قبل الاحتلال وهم في نعيمٍ بعده كالذي يرى أنهم كانوا في نعيمٍ قبل الاحتلال وهم شقاء بعده ، لكلٍّ وِجهَة ٌ هو مُوليها ؛ ولا يشغله شأن العراقيين في كثيرٍ ولا قليلٍ .
ما مِن مجموعة بشرية إلا وفيها البرُّ والفاجر ، المُحسِنُ والمسيءُ سواءً بسواءٍ ، وهذا أمرٌ قد فرغ الناس مِن اللدَدِ فيه منذ أحرُس ؛ غير أن الغزاة قد أعادوه جَذعًا طرِيًا ، فصار العراقيون شذرَ مَذرَ ؛ كلُّ حِزبٍ بما لديهم فرحون ؛ ولا عجب اليومَ إنْ سُئلُ عراقيٌّ غـُفلٌ أو فطِنٌ : أيُّ الناسِ خَيرٌ ؟ فقال جهرًا وهو مُختالٌ : بنو طائفتي أو بنو عرقي أو بنو كوخي أو بنو حِزبي وهذا الأخيرُ أضعفُ الكفر بالوطن الذي هدانا إليه المحتلون "النبلاءُ"! . إن المحتلين يريدون أنْ يَتمايز العراقيون في أكواخ ؛ رَجاءَ أنْ يتباغَضُوا فيتنافسوا فيزدري كلُّ عراقي أخاه العراقي في الكوخ الآخر ويرتابَ منه ،، وما أشدَّ ما فجعَنا بعد الاحتلال أن نسمع غُفولاً من كلِّ كوخ يقولون : المحتلون أرحمُ بنا من أهلِ ذاك الكوخ ،! وهذا ما يبتغيه الغزاةُ المُزاةُ ،، فهلاَّ تفكرنا ...
يقولُ المفكرُ د. محمد الجابري : {إن الفرد في القبيلة لايتصور أنه مسئول كفرد عما يفعل لسبب بسيط هو أنه يَصدر في أفعاله عن مَخايل القبيلة ... إنه يصدر في نشاطه الاجتماعي / السياسي خاصة عن قهر اجتماعيٍ ، عن جبرية قبلية تمنعه من تصورِ أنه كان بإمكانه أن يفعل غير ما فعل } (محمد الجابري/ العقل السياسي العربي) .
والنظامان العرقي والطائفي مماثلان للنظام القبلي في هذا الصَدَد ؛ ولذلك لم يجد الغزاة "الأحِبَّاءُ" مَن يَكفح زيفهم ويَدفع أذاهُم ويقطع دابرَ طمعهم ؛ فالساسة في العراقِ ما بَرِحُوا يموجون ويتساءلون :
أين الحدودُ لهذه القرية وتلك المحلة ؟ ما الفرق بين الأقلمة وبين التقسيم ؟ كيف الوفاقُ بين المركزية وبين الإقليمية ؟
لأيِّ المُصْطفَينَ الرئاسة ُ في مجلس النواب ؟ ولمِن القِدحُ المُعَلىَ في مُساوَمِها ؟ كم قِنطارًا لهاتيك الثلة ؟ وكم دانقـًا لذاك الصُقع ؟ ما هو المَحفِد التاريخي لمحافظة كركوك ؟ وإلى أيِّ كوخٍ سنيضيفها ؟ من أحقُّ بهذه الوزارة ؟ ومن أولى بتلك السفارة؟ أيُّ الوزارات أحظىَ بالمَدَد ؟ وهل لِشمال العراق أن ينفصل مُستقلاً ؟ من هم شهداء العراق ؟!! وما هي درجاتهم ؟!! وغيرها لا يُحصَى .
لن نعثر على أجوبة مَحْسَمَة لتلك الأسئلة لأنَّ سعير المَرْج مشتعل بين مُثيرِيها ؛ ولو عثرنا عليها فلن يزول عَناء العراقيين بها ؛ وحتى يَتمََّ ذلك تكون قوافل الغزاة الجُباة ومن اُولِعَ بهم قد اكتظت بمغانمِ العراقِ ومَضَوا بها إلى حيث حَلت رَحلها أمُّ قشعم !!.
لماذا لا يحتشِد نواب البرلمانِ لإغاثة المهجرين ولإيواء المشردين ولِعون الأراملِ ولرعاية اليتامى ؟ إنهم لا يَحفـُلونَ بذلك ،لأنَّ كشف الضُرِّ عن العراقيين لا يَزيدُهم بَسطة ً في الثراء والمَكِنة.
...................
ويَحرُمُ النكيرُ إذا وجدنا من هو غير راضٍ عن النظامِ السابقِ ؛ فالمعارضة أمر معهود في العالم كله ولا جُناحَ على من أتاها ، بَيد أن الحَدَدَ الممنوعَ هو القبولُ بالغزو والاستئناس بما اجترح الغزاةُ من القبائح .
وكيف يكون لأحد أن يرى وجوه العراقيينَ تُعَفـَّر بأحذية "المتحضرين" ، ويعلم خبرَ ما اقترفه أمارِشُ الكابوي ومن شاكلهم من الفواحش ، ويرى الوَبَدَ قد ضرب بجرانِه في أعقار بيوت أكثر العراقيين ، ويرى خزائنَ العراقِ أسلابًا مُتعاقبًا على احترابها ، ويرى عُصب الموت ذوات الألوان قد وَفدَ مُرداؤها رِسْلة ً رِسلة من بعد الغزو وأنشأوا ينهشون أمواتنا ويُذلون أحياءَنا ؛ كيف يكون لذي فِطنة أن يرى هذه الصَواقِرَ وأُخَرَ من دُونِها ثم يُسميها "تحريرًا وفتحًا مبينـًا" وينأى عن استرذالها من غير أن ترتعد فرائصُهُ وتنتفِخ أوداجُه غيظـًا على الغزاة "الأبْرارِ" !! وإذا قيل إن المحتلين جاءوا لنصرة العراقيين ، فمتى كان غزاةُ "العالم المُتحضر" ذوي غوث ورحمة ؟! ما هذه الخدعة التي تجعلنا نرى الاحتلالَ المُذلَّ "تحريرًا"والخِزيَ المُهينَ "سُؤدَدًا"
وعلينا أن نمكث بُرَهًا لِنتساءل:
أليست الديمقراطية شِرعَة ً مَدَنية ؟ فكيف تقودُها أحزاب ترتدي بزَّتي العرقية والطائفية وهما بزَّتان مُنكفِئتان ولا وشيجة لهما بالمدنية ؟
لا مِراءَ في أنَّ الغزاة لم يَجدوا أتراسًا يَصدون بها سُخط َ العراقيينَ عليهم خلا هاتين البزتين ؛ وبهما شَغلوهم فأضحت غنائم العراقِ مصفوفة ً بين أيديهم وأيدي سُجَرائِهم بغير شقاء ولا حساب .
وكيفما ننظر الى النظامِ المُقامِ نجِده متصدعًا مُختلاً ،لأنَّ النظام السياسي المُحكم لابد من أنْ تُشاد دعائمه القانونية على نسق مؤتلف يَعضد بعضُها بعضًا وما نراهُ هو اضطراب مِحَشٌّ !!
ما من بلد ذي وَقار في العالم أجمع إلا ويكون الدستور فيهِ مَوئِلاً آمِنـًا يلوذ بهِ الساسة أيَّانَ يتنازعوا ، أمَّا في العراقِ ؛ فإن الدستور هو مَنشأ الاختلاف ومَرتع الشقاقِ لِما يحويه من فِقرات مُلتهبة تنشأ منها تأويلات مضطربة وهذا يعني أن العلاقة بين الدستور وبين الساسة هي علاقة نزاعية لا إصلاحية ؛ وعاقبة ذلك أن يظل الدستور غُطاطـًا ؛ مشكلة ً وحلاً ؛ مِنهُ الخِصامُ طورًا وإليهِ الاحتكامُ طورًا آخر !! وتلك كركوك وَقودًا للنزاع ؛ عامرةً بالشقاقِ والتبييت . وما الدستورُ إلا زيتٌ يُلهِب نيران الفُرقة فيها .
وأضرُّ من ذلك أن يكون الحلال والحرام حاضرين في كل خطب من خطوب السياسة ، ونحن هنا بحضرةِ معضلتينِ ليس لهما أبو حسن (ع)، إحداهما تديين السياسة وهو أن يصبغ الساسة ُ نظامَ الدولة أو سياستها بلون ديني كما كان يصنع بوش"النبيل" ومَن حَوله .
والأخرى تسييس الدينِ ؛ وهو أن يجعل الثيوقراطيون نظامَ الدولة المُتجددَ مَسلكـًا إلى إبقاء منهجهم الحزبي الخاص .
فأما تديين السياسة فما هو بجديد ولا كامِنـًا، كما أن الناس سُرعان ما يعرفونه فيكرهونه ؛ ذلك بأنَّ مَساقِط النظرِ ساعتئذٍ هي الأحداث السياسية ، وهي جالبة لنقدِ الناسِ ولو كانوا أغرارًا ...
وأما تسييس الدين فهو أثير ومألوف لِلمُدمغجين لأنه "مَنوط بالعقيدة وناصر لها" في أعينهم ؛ وبذلك يتعاقب الثيوقراطيون قرونـًا عَددًا ؛ لايسألهم أحدٌ عن شيءٍ ، وليس له حق في ذلك لو أراد ؛ وهذا ما يُخشىَ في العراق إذ لا يَعِيهِ المُدمغجون وإن كانوا حُذاقـًا !.
ومِنهاج الثيوقراطيين السياسي ليس خِباءً صِيغَ على مِنوال واحد ؛ يَسعُ الناسَ جميعًا أن يأووا إليه ؛ وإنما الثيوقراطيون أحزاب مختصمة وأمزجة مُعتركة تنشأ منهما آراء كثيرة تحوط السياسة حَوط َ القِلادة بالعُنُق .
وقعَ التحرر الإسلامي من الحكمين الثيوقراطي والقبلي إبَّانَ الحِقبة النبوية منذ أربعة عشر قرنـًا وزيادةً .. يقول المؤرخ الأمريكي وول ديورانت واصفاً العقيدةَ الإسلامية :{ أسهل العقائد، وأقلها غموضا، وأبعدها عن التقيد بالمراسم والطقوس، وأكثرها تحررًا من الوثنية والكهنوتية ..... ، ويقول واصفاً القرآنَ الكريمَ {وقد كان له أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقي والثقافي } ...، وقد تخطت القوانين الأخلاقية التي جاء الإسلام بها حدود القبيلة التي ولد النبي بين ظهرانيها .... ، وقللت العقيدة المشتركة ما بين الطبقات والأجناس من فروق ....، تلك بلا مراء عقيدة نبيلة سامية ألفت بين الأمم المتباينة المنتشرة في قارات الأرض فجعلت منها شعبًا واحدًا: وهي لعمري أعظم معجزة للمسيحية والإسلام} .( وول ديورانت / قصة الحضارة ).
ثم تطاولت القرونُ حتى تحرر العالم المسيحي من أغلال الاكليروس السياسي فتسنموا شمَمَ الازدهار العلمي واحتضنوا مَجرةَ العقل المبدع وهذا ما نراه في أوربا وأمريكا.. فهل لنا أن نعود في العراقِ إلى القرونِ الأولى؟ ولِقائل أن يقول: إنَّ دَيدن القبيلة وسَمْتَ الديانة ما انفكـَّا طِلاءً تدَّهِنُ به الأنظمة الخالية ! ولهذا القول فسحة ُ صوابٍ، ولكنْ ما نفع الغزاة في احتلالِهم العراق؟ أهُوَ أن يُزيلوا نظام حُكم مُناجزًا يَذودهم ويُقيموا نظام حُكم مُوادِعًا يَنحَلهم ؟! أفبهذا ينجو العراقيون الأحراضُ من عذابهم ؟
ولا ضيرَ في أن يحكم العِرقيون ولكن على أن يكون مِنهاجهم ذا غرض وطنيٍّ عام لا قوميٍّ خاص وحينئذٍ يطمئن كل المواطنين إلى حكمهم ؛ إذ يجدونه مفيدًا لهم ولا يبخسهم حقـَّهم .. وهكذا الثيوقراطيون إذا كان برنامجهم نافعًا للمواطنين كلهم جميعًا وإذا لم يجعلوا رضا الله معلقـًا بانتخابهم ولم يُكرِهوا الناسَ على الاقتداء بهم في شؤونهم الخاصة . وبهذه الشروط ظفر بالحكم حزب العدالة ذو الصبغة "الإسلامية" في تركيا..
وما الأحزاب العلمانية العراقية بَراءً من الدَخَل ، بَيدَ أنَّ مثالبها مكشوفة كلَّ الكشف ؛ فأغنى ذلك عن الحديث عنها..
ولـَحَبَّ بالطائفية والعرقية مِنهاجًا لو كان عُرافاؤهما يُقيمونهما حقَّ الإقامة ؛ فإنَّ مُقتضى ذلك أن يسعى العرفاء لاجتلاب الجَداء الذي تسعد به الطائفة والعرق وتغنيان ، إلا أنَّ حال العراقيين لا تُنبئ بذلك ؛ فهي شقاءٌ في إثره عناء في طيِّه بلاء في آخِره أدواء!! أمَّا العرفاء فهم وحدهم فاكهون في فردوس النعيم الأعلى !
ومما يرتجُّ له الحكماء ؛ العجزُ عن إيجاد وصف نخلعُه على النظامِ المُقام ؛ أهُوَ ديمقراطي أم عِرقيٌّ أم ثيوقراطيٌّ ؟
ديمقراطي بأدوات ثيوقراطية أم ثيوقراطي بأدوات ديمقراطية ؛
ملكي بأدوات جمهورية أم جمهوري بأدوات ملكية ؟
أمراء طوائف أم زعماء أكواخ أم مراكز قِوىً أم إقطاعية جديدة أم إكليروسية حديثة النُشوء ؟!
إنها لـُجَجٌ يَغرقُ الألِبـَّاءُ في غَمَراتِها !!
وأرجحُ الظنِّ أنه خليط مُتنافرٌ جعله المحتلون الدُهاةُ نسيجًا مُتسِقـًا ...
ولعلَّ وجْهَ شبَه كبيرًا بين حالِ العراقِ سياسيًا وبين فصل من مسرحية للفنان محمد صبحي ؛ أقتطعُ قطافة منه مع التصرفِ لغة ً:
{ جاءَ إلى الدكتاتورِ مستشارُه وقالَ له إن الرأسماليين يريدون أن تعمل بمَنهج الاقتصاد الرأسمالي ؛ فعمل به الدكتاتور كما يحلو له ، ثم جاءه مستشارُه وقال له : إنَّ الراسماليين يقولون إنك لم تعمل بمنهج الرأسمالية كما ينبغي!! ثم جاءه مستشارُه وقال له إنَّ الاشتراكيين يريدون أن تعمل بمَنهجَ الاقتصاد الاشتراكي فعمل به كما يحلو له ؛ ثمَّ جاءه مستشارُه وقال له : إنَّ الاشتراكيين يقولون إنك لم تعمل بمنهج الاشتراكية كما ينبغي ؛ ثم جاءه مستشارُه آخِرَ مرةٍ وقال له إنَّ الناس لم يفهموا شيئـًا ! فقال له الدكتاتورُ :
هذا ما أريدُه وإذا وجدتَ أحدًا يفهمُ شيئـًا فأمسكْ بهِ وألقِهِ في السجن !!
وأبلغ وصف للنظام المُقام هو{الشتاتُ المَنضود}والمُرادُ به أنَّ المحتلين بَعثروا حَشدَ العراقيين وجعلوهم أشتاتـًا متناثرةً فجمعوا ما تشابه منها كلََّ أشباهٍ على حِدَةٍ فصاغوها قِطعًا مُتفرقة لا تتشابه في شيء ولن تتشابه ؛ لأنَّ الاختلافَ هائجٌ بينَ مُضارحِيها والطمعَ مُتوقدٌ في صدورِ زعمائِها ، وربما يتفقُ المُختصِمون منهم عمَّا قليلٍ إذا قضى المحتلون أمرًا ما زال مجهولاً !!. وأمَلُ الغزاةِ في هذا أنْ يتنازع العراقيون أمرَهم بينهم ويُضمِروا المَكرَةَ ؛ فيُسابقَ زعماءُ الأكواخِ سِرًّا وعَلانية إلى قِلاعِ الأمارشِ طمَعًا أنْ يَخَصُّوهم بالعَطايا الكـُبَر وحِذارَ أنْ يُقصُوهم عن عروشِ المُلكِ الكوخيةِ ، وبهذا يبدو أنَّ بأسَ العراق وبلاءه إنما هو من اختلافِ العراقيين وما على الغزاةِ جَرِيرَةٌ فيه ، فيلومُ العراقيون أنفسَهم ويتلاومُونَ حِسْبانـًا منهم أنَّ العِلة فيهم لا في المحتلين ، وهذا بيِِّنٌ كقرن الشمس في رونق الضُّحَى . وإنَّ مما يزيد تلاوُمَ العراقيين ولومَهم أنفسَهم ، تأنيبُ الشخصية العراقية وجلدُها من الذين وجدوا ذلك مُخدرًا ناجعًا يُجهزون به على عقل العراقي الغِرِّ بعد كلالة دامت سِنين طِوالاً ، وإذا كانت عِلة ٌ لا غـُنيان من لوم العراقي نفسَه منها فإنما هي إذا أسلمَ وجهَه لمن وَعَدَ فأخلف وَعده وسعى لإثراءِ نفسه وعُزمَتِه فيما مضى من سِنيِّ الاحتلال ،..
ولن تكِلَّ عقولنا إذا تفكـَّرنا في القواعد التي رفعها المحتلون لنظام الدولة ، إنها قد أُسِّست على الفُرقة ، ومهما يَزدَد الناسُ عِلمًا بسُوئها فيَطمعوا بإزالته ، فإنهم يرجعون إليها كلما اختلفوا ، ذلك بأنهم يرون فيها مُنطلقـًا قد بدأوا منه ، ولن يُغنِي إيمانـُهم ببطلانها شيئـًا لأنها باتت أشبهَ بأصل الإنسان الذي يَئرِزُ إليه ولو كان غيرَ مُؤَثلٍ بالمَجد . وما مصطلحُ الديمقراطية التوافقية إلا دليل ناصع على صوابِ ما تقدمَ ، فأربابُ الأكواخِ لا يُبرمون أمرًا إلا وتكونُ مصالِحُ الكوخِ أولَ ما يحضرُهم فيه وآخِرَه. ولا يوجد مِنهاج قويم يحتكمون إليه وإنما يحتكمون إلى التراضي التحاصصي في كلِّ شأن ؛عَظـُمَ أو صَغـُر .
وما أحسَنَ أن تقوم الحكومة بالقِسط ؛ فتُعاقب كلَّ من ظلم قبل الاحتلال وبعده ! ؛ أمَّا أن تتبع الهوى فتصفح عن أُناس وتعاقب آخرين ؛ فهذا الجَور عينـُه ، ويبدو أنَّ شِرعة التفاني التي كان عليها أسلافنا الجاهليون لا تزال قائمة في نفوس اللاحقين ؛ قد ورثوها كابرًا عن كابر ؛ من لدُن عبس وذبيان حتى يومنا هذا ؛ كما حكى لنا زهير بن أبي سُلمَى :
تداركتما عَبْسًا وذبْيانَ بعد ما
تفانـَوا ودقـَّوا بينهم عِطـْرَ مَنشَم ِ
وهذه خَـصلة عامَّة ليست لجنس ولا لعرق ولا طائفة بل هي لكلِّ الذين اتخذوها دأبًا في العراق قبلاً وبعدًا ، أيـًّا تكن نِحلتهم وعرقهم وديارهم ..
وليأتِيَنَّ بعد قرون شاعر يحكي ما يحدث الآن فيقول :
تداركتما الطائفة الفلانية والطائفة العلانية ، وتداركتما العرق الفلاني والعرق العلاني بعدما تفانوا ودقوا بينهم عِطر كوندوليزا رايس ! وهكذا دواليك ، كلما حكمت أُمَّة أفنت أختها . والعراقيُّ يُقلب كـَفـَّيه على ما يصنع زعماء كوخه ، وأعداء العراق يسخرون مِنـَّا ويتشفـَّون !!
وعَوادِي الدهرِ تتناسخُ في العراق فهو ما انفكَّ ثِفالاً لِرَحَى الوَغَى ، يَطحنُ بها الأبيضُ والأسمرُ من أهلِ الأرضِ ؛ مشارقِها ومغاربِها !!
ومِن عُظمى الطوامِّ التي أمطرها الغزوُ الأشوه أن تصير هوية العراقي الكُوخية وحدَها سَبَبًا إلى نيلِ الوظيفة أوالعمل ؛ فكلٌ مِن أرباب الأكواخ لايرغب في أن يعمل في كوخه إلا من كان من رَهطه ولا يَضيرُه أن يكون مُوغلاً في الجهلِ ؛ وهذا ما يجعل الشبابَ لايجدون في الثقافة والعلم نفعًا حاضرًا ؛ فيهجرون البحوثَ العِلميةَ التي تسود بها الأممُ ويُقبلون على البحوثِ المَكارثِية ليتعلموا منها مِنهاجَ رَمْيِ الفِرَى ، وعلى البحوثِ المِكيافيلية لِيُتقِنوا بها فنونَ النفعية ؛ فعند ذلك يحوزون قصَبَ السبق في المال والجاه . وبذا تزدانُ أمُّ الجَذع في العراق "الجديد" .
ثم إنَّ هذه الطامَّة أنشأت رِياءً في الدينِ ؛ فكثيرٌ من العراقيين وَجَدُوا في ادعاء الاستقامة على "الدين" كسبًا يملأ صُرَرَهم ؛ وأصبح بعض الساسة يَقسِمون أُعطِياتٍ بين الفقراء كِفاءَ أنْ يأخذوا عليهم عهدًا بأنْ ينتخبوهم إذا حَمِيَ وطيس الانتخابات ؛ وصَيُّورُ هذا ألا يكون "الدينُ" آلة ً سياسية ً فحسب ، بل طِرازًا اجتماعيًا (مُوده) أيضًا ، ولئِنْ كانت ازدواجية الشخصية فِعلاً تلقائيًا فإن الرِّياءَ فِعلٌ عمْدٌ ، وأيّانَ تجتمِعْ هَتان الخِصلتيانِ في شخصيةِ العراقيِّ يُذبذِبْ بينَ ازدواجية تِلقائية تقعُ له بغيرِ قصدٍ وبين رياءٍ ينتفعُ به عمْدًا !وهل إلى شفاءِ النفسِ من هذه الحُمَّى سبيلٌ! ولو كان الضِّليلُ امرؤُ القيس فِينا لارعَوَى عن غيِّهِ ولأمسَىَ راهبًا يتنسكُّ في مِحرابِ نيكولَ بنتِ كِيدمانَ ، ويُناجي عَينـَيها الزَرقاوَيْنِ ، ويفترش مِجْوَلها الشفَّ ويَعلو سنامَها الأشمَّ فيستغشي مِجْوَبَها الرَّفَّ ، لِيَتلاطفا في غَبيطِها الهوليوديِّ!.
...........................
زعم الغزاة أن في العراق سلاح دمار شاملاً وقد لاحَ بهتانهم الجُوبلزي ولكن بعد ما دمروا العراق تدميرًا شاملاً ، وزعموا أيضًا أن لفِيفـًا مسلحًا - كان حليفـًا لهم - ، قد وَجَدَ في العراق نُصرةً ومَدَدًا ! وقد استبان افتراؤهم المَكارثِيُّ ؛ وأيقنَ حديدُ البصرِ والعَمِهُ على السواء بأنه ما كان لأحدٍ أن يَطأ شبرًا من أرض العراق ولا أن يأخذ فِلسًا منها إلا من بَعد أن أباحوا حدودَها ، وكذلك وزعموا أنهم يَبتغون إنشاءَ نظام ديمقراطي يكون مِثالاً يُحتذى به في المنطقة كلها ! وقد حَصحَصَ زُورُهم البُوشي ، وبَدا لِلأعْشَيْنِ ما لهذه الديمقراطيةِ الكوخيةِ من عَواقِب باهظة أبادت خضراءَ العراقِ وأهلكت حرثه ونسله وفرَّقت أهله الذين كانوا كالبنيانِ المرصوصِ . كما أنها أصبحت شرًا يستعيذ الناس في منطقتنا من حُلولِه ؛ ويَحمدون الله أنه لم ينزل بهم .
وإذا أبصرنا إيرانَ عَلِمنا أنها قد جمعت "المُسوغات الدولية" التي اُبيحَ بها غزوُ العراقِ واحتلاله ؛ بَيد أنَّ الإدارة الأمريكية على الدَوْلِ ما فتِئت تُبرِقُ وتُرعِدُ وتعِدُ حُكامَ إيران بالويلِ والنَكالِ تارةً ، وما تلبثُ أن تبسُط َ إليهم يَدَ المُتيـَّمة وتتلو شِعرَهم تارةً أخرى ! والحقُ أننا بين غفلة من هذا وإعراض عنه وغُلوٍّ فيه ، والسبيلُ الحُسنى أن يُوزن الأمرُ بالقِسطاس المستقيم ؛ فإذا قيل ( لولا طهران ما سقطت كابل ولا بغداد ) فليُقلْ بإزاء ذلك : لولا غزو أمريكا ما تسَّلط َ السَّفكـَة والسَّرَقـَة الوافدون والقاطِنون على العراق ؛ فجالبُ المصيبة أسبقُ بالذمِّ ممن أقعىَ على أهلِها وتشَفىَ بهم فضاعفَ مصيبتهم وإن كانا في الخطيئة شريكين . وليُقل أيضًا : لولا إغضاء "المجتمع الدولي" عن خطيئة الغزو ورذيلة الحصار قبله ما جَرُأت أمريكا على سَطوها بالعراق .وليقل كذلك : لولا أنْ مُزِّعَ العراقيون فِرَقـًا وأكواخًا ما حَسُنَ للغزاةِ على اختلافِهم مُستقرٌ في العراق .
وإذا اختصمت الحكومتانِ الأمريكية والعراقية السابقتان ،
فهل يُبيحُ هذا للأولى منهما إضناءَ العراقيين وإتعاسَهم ، بالحصار الماحقِ كرّةً وبالغزوِ المُبيد كرةً أخرى ؟! ولماذا لم يغزُ الأمارشُ العراقَ بُعَيدَ ما خاصموا النظامَ السابق ليُقيموا "ديمقراطيتهم" و"يُغيثوا" العراقيين ؟! ما الذي جعلهم يؤثِرون فرضَ العقاب الاقتصادي ؟ ومن الذي أصابته لأواءُ الحصار المُجْدب أولاً ودُهَيماءُ الغزو الفتاك آخِرًا؟
أما كانت الحكومة الأمريكية على دِراية مُحدِقة بأنَّ الحصار الاقتصادي لا يَشقىَ به إلا العراقيون العُدماء ؟ ألم تأتِها أنباءُ عيونها ؟
ما هذا الحصار المُرذِي الذي يَتمَطـَّى اثنتي عشرة جَرَزًا من غير أن يَعبأ به "المجتمع الدوليُّ" ؟
فما يكون لذي حصافة أن يقول : إنَّ وَقـْذ َ العراقيين وإذماءَهم لم يكونا مَأرَبًا ابتغاهُ أشرارٌ أشائِبُ وبَيتوهُ منذ عقود ؟ ولا أن يقول : إنَّ العِقابَ الاقتصاديَّ الدَولي الذي حَلَّ بالعراقِ لم يكن للعراقيين الوَجْعىَ وإنما كان للنظامِ السابق .
ولعَمْرُ اللهِ إنها لصَفقة ٌعَسُوفٌ أبرمَ عَقدَها عَتالٌّ شُتوتٌ في نهار أغبر لا شمس له !.
وليس النظام السابق خِلوًا من المَأخذ والمُؤاخذة ، إلا أنه اُزيل وحُوكِم قادتـُه ؛ فما الغـَناءُ في استذكار ما مضى وقد وافىَ سِدرَةَ مُنتهاه ؟! حَقِيقٌ علينا أن نشغل أنفسَنا بالحديث عن الوَهْرة اللاحقة والمَعَرَّة الساحِقة وعَمَّن غزا فاستولى وسطا فاغتنىَ وزنى فانتشَى وعتا فازدهَى وغشَّى فاعتلى وأوْهَى فازدرى وأعيى فانتضى ولمَّا يُحاسَبْ بَعد ...
إنَّ الفجائع الإنسانية التي فطرَها الغزاةُ لا يُدركها عَدٌ ولا حَصْر، فالعراقيُّ إذا استيقظ َ من نومِه تنفسَّ هواءً مُلوثـًا وشربَ ماءً وَبيئـًا وأكلَ طعامًا فاسدًا ؛ فإذا أعمل تلفازَه استمعَ لأغنية ( اضحكْ اضحكْ يا عراقُ ، الدنيا تحبك يا عراقُ ) فلا يُكذبُ الخبرَ فيَخرجُ مِن فورِهِ مُطمئنَّ النفسِ مَرِحًا ؛ فلا يخطو إلا خطواتٍ قِصارًا حتى يجدَ جسمَه مُضرَّجًا وَسْط َ مجزرةٍ صنعتها قنبلة ناسفة أو لاصقة ؛ فإنْ نجى حَمِدَ الله وضحِكَ مرَّةً ثانية ؛ فإذا اطمأنت نفسُه أحاطت به الشرطة ُ وحبسته بتهمة التدبيرِ أوالمُمالأة ؛ فإنْ برئَ وخُلِيَ سبيله - بعدَ أنْ يُكرمَ - ضحِكَ مرّةً ثالثة ً ورجَعَ إلى بيتِه نشوانَ ؛ فإذا جثة ُ أحدِ أهلِه مبسوطة ٌ بالوَصيد ومِن حولها بعضُ أهلِه ينوحون وبعضُهم قد توجَّهوا تِلقاءَ مَشفىً ليُواسوا ذا قربى لهم قد أصابته ضَراءُ فلبـِثَ من جَرائها هنالك ؛ وبعضُهم احتبَوا لدى مَتجَرٍ لهم بعد إذ غدا هشيمًا تذروه الرَِياحُ، وبعضُهم يَمَّمُوا سجنـًا حُبسَ أحدُ عُزمَتهم فيه ولم يبرأ ممَّا رُمِيَ به ، ومن لم يصِبْه ضُرٌّ في نفسِه أو مالِه أو رهطِه غَشِيَه الرَّوْعُ مما يرى من رزايا الاحتلال ، تلك حياةُ العراقيِّ من طلوع الشمسِ حتى غِيارها ؛ وما ندَّ عنه الوصفُ أشدُّ وأفظعُ ،، فعلامَ يَكلحُ العراقي ؟! أفلم ينظر إلى الديون كيف رَبَت وإلى فرق الموت كيف تقاطرت ، وإلى النساء كيف أُيِّمَت ورُمِّلت وإلى الشباب كيف قـُتِلوا شرَّ قِتلةٍ فطـُرِحَت أشلاؤهم في القمائم وإلى المياه كيف وَبئت وغِيضَت وإلى الأرض كيف أجدبت وإلى الأطعمة كيف فسدت ؛ فاضحكْ أيَّها العراقيُّ حتى تبدوَ نواجذك ؛ فإنَّ الدنيا تعشقك عِشقـًا لم يبلغه عشقُ جميل لبُثينة ! .
وإن قيل إنَّ جوائح الطبيعة - كالتي عرضت بعضها آنِفـًا - لا طاقة لأيِّ دولة بردِّها ، فماذا يُقال في غلاء الاسعار غلاءً فاحشًا حتى لا سِدادَ من عَوَزٍ ؟! ولو وازنـَّا بين ثمن أيِّ سلعة في العراق وبين ثمنها في بلد آخَر لكان ثمنها في العراق أربَى قليلاً في سلعة وكثيرًا في أخرى ، وآخِر شيءٍ وَقرَ أُذنـَيَّ من نبأ الغلاء أنَّ كيلو اللحم – مثلاً- بلغ ثمنه خمسة عشر ألفَ دينار بما يَزنُ زُهاءَ ثلاثة عشر دولارًا ، وهو في السويد بستين كرونة بما يزن زهاء عشرة دولارات ، ولئن كان السويديُّ يتقلبُ في حُبور العيش فإنَّ العراقيَّ ما وَنِيَ يَذوي ذيَّ العُشب في صحاري العُسرة الجدباء .
وإذا قيل إنَّ الرواتب قد زِيدَ عليها فصار العراقيُّ في "سعة" من أمره ؛ فإنَّ يَحموم الرُّعب لا يُبقي للمال حلاوةً ، وأصدِقْ بما قال أبو نواس :
إنما يرجو الحياةَ فتىً
عاشَ في أمْنٍ مِنَ المِحَنِ .
وبينما العراقيون الأكفِياءُ والمَهَرَة راقدون في مَغارات البطالة ؛ لا يجدون عملاً يُرزقون منه إذ يُستـَجلبُ عُمالٌ "لِيقوموا مقامَهم" في صنائع كثيرة ؛ حتى قال مسئول إنَّ الأُجَراء المُستجلبين خيرٌ من المواطنين !
والحقُّ أنه صادق في قوله ؛ فالمستجلبون أقلُّ مَؤونة ً وأغزرُ رَباحًا وأجْدَرُ ألا يَنتصفوا إنْ أصابهم حيفٌ أو عسف ،
واليقينُ أنَّ ذاك المسئول لم يقرأ ما كتبه "النبيل" بول بريمر في مذكراته ، إذ أطرى العراقيين الحُذاق أيَّ إطراءٍ وأثنى على مهارتهم غيرَ مرةٍ ، ومما قاله في ذلك :{ وفي أثناء الوقت القصير الذي أمضيته في العراق تأثرت مرارًا وتكرارًا بالقدرات التقنية الاستثنائية التي يملكها العراقيون في الحكومة والصناعة . إنهم بحاجة إلى فرصة فقط لاستغلال هذه المهارات في عملٍ منتجٍ }( بول بريمر / عام قضيته في العراق ) .
بثت قناة فضائية عِراقية تقريرًا مُتلفزًا أظهرت فيه مَجمَعًا من عوائل وَصابَى ومُشرَّدة ؛ اتخذت الصحراءَ مَقطنـًا والقـُمامَ زادًا ودواءً ؛ ، قالت فتاة مُتسربلة بالبؤسِ : إنها أخذت مَرهَمًا من أكوام القمامة واستعمَلته عِلاجًا لرجلِها المُعتلة ، فقال لها المراسل : أما علمتِ أنَّ هذا المَرهمَ فاقدُ النفاعِ ولهذا اُلقِيَ في القمامة ؟! فقالت : لم أجد سِواه .. وقال طفل سَغبان إنه يأخذ العُلوكَ منها ! وقالت امرأة مُتلفِعة بالضَيم إنها توشكُ أن تبيع عباءتها من شدة الفاقة ، وقالت امرأة عَبْرَى تقيم في سوريا إنها تذهب في رمضان إلى جامع لتأخذ من طعام موائده ما تقتات به هي وأولادها...!
أهذا العراقُ الجديد ؟! أهذه الرَّفاهية ُ الموعودة ؟
أين المسؤولون عن هذا الوَبَد المُترِّحِ والسَغب المُبرِّحِ واللأي المُطوِّح ؟!
ألم يَعِدوا العراقيين برخاء المَعايشِ بعدَ الغزو ؟
فها هي سبعُ هَلكاتٍ قد أجمَّ انصرامُها وما وُجدَ لهم وعْدٌ ولا عهد !!..
إنَّ المسئولين على اختلافِهم كوخًا وحزبًا وعِرقـًا ودينـًا و"مَذهبًا" ومَشربًا ؛ يَبيتون على بطنة ويأكلون ألذ الطعام وأطيبَه ، ويَستترون بمراكب مُصفحة ويشمَقون في رَوْحاء القصور المَشِيدة وينامون على فرشٍ بَطائنها من دولارٍ أو ما يَزِنـُه ، وإذا مَسَّ أحَدَهم داءٌ أُهرِع جَوًا إلى أرقى المشافي في أقطار الأرض أدناها وأقصاها ؛ لايرون شمسَ العَوَز التي أحرقت الفقراء ولا زمهريرَ المرضِ الذي أقعدَ الأصِحَّاء ، ولا يستمعون إلى عويلِ المُشردين ونحِيطِهم ولا إلى استغاثة المهجرين وأنيحِهم في المَنزَح وفي المَهجَر ، هذا مع ثرواتِهم الضخمة التي تربو اطرادًا في المصارف القريبة مِن بلادنا والبعيدة عنها .
لقد كان يُخيَّلُ إلى أُناس كثير أنَّ أمريكا بلادٌ ذاتُ "حضارة" فإذا غزا جيشُها أرضًا كان أرحمَ بأهلِها من أنفسِهم ، ثم تبين للناسِ أجمعين أنَّ النظام الأمريكيَّ يَرقىَ عُروجًا في العلوم إلى ذرا القمرِ الأوعلِ ولكنه يَهوِيِ حُدورًا في الأخلاقِ إلى دَرك الفجورِ الأسفل!.
ولو أوفى الغزاة الأفاكون بشيء ذي غَلة مما وعدوا بهِ فأصابَ المُعْوِزين أوفرُ حظ منه ؛ ما استطاعَ أحدٌ أنْ يَنقِم منهم أمرًا ولا كان لِنُقومِه إنْ نقمَ وجْهٌ مَرْضِيٌّ ، غير أن المحتلين ما أنجزوا سِوى الإرجاف والسطو والفحشاء ، وأبَوا إلا أن يجعلوا نُهوبَ العراقِ دُوُلة ً تدولُ بينهم وبين مَن استنَّ طريقتهم ؛ فجَمعُوا في احتلالِهِم حَشفـًا وسُوءَ كِيلة .
ومَثلُ العراقيينَ كمَثلِ هَزارٍ بَهيٍّ ؛ رماهُ قطاعُ طريقٍ بسهامِهم ، فكسروا أحدَ جَناحَيه وجَزُّوا الآخَرَ ، فطفِقَ يتطوحُ في فلاةٍ ؛ لا فيها طِبابٌ ولا نُزُلٌ ، فأحاطت به ذِئابٌ قساوِرُ ؛ كلما جاعت نهشته فإذا شبعت جَثمَت عليه.
ومَثلُ العراقِ كمَثلِ مِحبارٍ لا حِمًى لها ولا قيِّمًا ، مرَّ عليها عَماريط ُ أفظاظ ٌ ، فطابَ لهم المُقامُ فيها ، فأخذوا يَرتعون في اُنُفِها حِينـًا ، حتى إذا أصابوا نُهْزَتهم وقضَوا وَطرَهم تهَوَّعُوا عليها ثم انصرفوا فكِهين.
لقد ابتغى المحتلون الفتنة َ فقسَموا العراقيين قِسمَة ً ضِيزى بأنْ جعلوا فِرَقـًا في عِداد من يأبَى الاحتلالَ وأخرى في عِداد من يَتقبـَّله .
وقد بان للناس قاطبة ً أنَّ في العراق صِنفين من الناس لا ثالث لهما ؛ أمَّا أحدُهما فآلِفٌ لما حلَّ بالعراقِ ومُستروِحٌ إليه وهذا الصِّنفُ نَزْرٌ قسيرٌ وقريرٌ وأما الآخَرُ فشانِئٌ لما حلَّ ومَبْعوجٌ بحِرابه وهذا الصِّنفُ وَفرٌ نحِيرٌ ونقِيرٌ ، وما مِن صُقعٍ من أصقاع العراقِ إلا وفيه هذان الصِّنفان . وإنَّ اليَقين بهذا لهُو الركن العراقي الأعظم الذي ما فتئ الغزاةُ العُتاة يُقوِّضُون عُمُدَهُ ، فهَونـًا نكّلوا بنا واُنسًا هَزِئوا مِنا .
وحال العراقِ اليومَ تجعلنا نعلم نِهاءَ العِلم أنَّ الذين ما انفكوا يخسرون في هذه القصة الشوهاء همُ العراقيون الأوفاضُ وحدَهم ؛ فهُمُ الذين شربوا أقداحَ الحَنظل وازدَرَدُوا حَصَى القهر ولعِقوا أوضارَ اللهَف وشهِقوا غُصَصَ الأنين وزفروا قيحَ الطِعان وهَمَرُوا عَبَراتِ الرََّزِيـَّة وسَهَدُوا على وَخْز العِلل ورَسَبُوا في اُثعُوب النوائب واضطجعوا على بُسُط المُلال وأُمطِروا سِجِّيلَ الشماتة وارتدَوا جلابيبَ الهوان وامتطوا مَراكبَ الزِراية وحاكوا حصائرَ النَفيِ بالعَراء وتوسَّدوا نمارقَ الشظف والدَقَعاء ؛؛؛
فمتى متى نُفيـق من سَبْتِنا فنُبصر أقدامَنا الوَجْياء في أواعِس الضياع فنحفِد لِنزعها ؛ وغَداتئذٍ نُشابه الأحرارَ النبهاء في سائر مَناكِب المَعمورة ؟!
لا تثريبَ على من نسج هذه الأسطورة الصَّوْراء فهي بضاعتهم ولكنَّ حَرُور اللوماء واقع بمَن آمَن بها ؛ فليَفطِن الغافلون بدارًا قبل أن يتجرعوا اُجاجَ الندامة غِمارًا وعَللاً بعد نهَل ؛ ولا سِنَّ تُقرَعُ مِن ندمٍ يومَئذٍ.. ،
ودونـَنا انتخاباتٌ أزِفَ مِيقاتها ؛ فإنْ يَفِ الساسة من بعدها بالذي يَعِدون به الآن يكن وفاؤهم بُرهانـًا يُصدِّق الدعاوَى المَبثوثة ، وإنْ يَقتفوا نهجَ عرقوب كما اقتفوَهُ من قبل ؛ فلا يلومُنَّ أحدًا قال : إن الديمقراطية في العراق وهْم رَحراح وسرابٌ دَوَّاح وإفكٌ سَيَّاح ، وليَطِيبوا نفسًا بذلك .
وإذا كان للجنون فنون فإنَّ { للديمقراطية الأمريكية} شؤونـًا عَجَبًا في بلادنا المُنتحِبة !