ما يدعو للتأمل في الحداثة، هو استعادة دراسة التطابق الزمني ضمن ضروريات الحياة، والحداثة تعني التنوع والتجدد في الطرح الفكري للانسان.
كتاب انطولوجيا الشعر الكوردي الحديث( ارواح في العراء) اعداد وترجمة وتقديم/ عبد الله طاهر البرزنجي.
تجليات السؤال الحداثوي الذي دأب في انتعاش التطور الفكري، واخضاعه للرصد وتشكيل عملية الخلق في الابداع الفكري، ولما شهده العالم من مظاهر التحديث في اشكال الاجناس الادبية ومنها الشعر.
الشعر الكوردي حمل مظاهر الوعي شكلا ومضمونا والشاعر سعد الله بروش، ضمن كتاب ( ارواح في العراء) له قصائد في صفحة ( 104) ولد في اربيل عام (1950) صدرت له مجموعة شعرية، بعنوان ( احضان السكينة)، عمل في الصحافة والاعلام، كان احد مظاهر الوعي الفكري ونماذجها المنتسبة للشعر المعاصر، مخترقا تموجات الذات في ذلك المعطى الادبي، رغبة داخلته بدافع من الماضي والمتحول نحو المستقبل، متوغلا في افكاره المنصهرة بطاقة ابداعية تمثله ليكون حضوره الناصع بصمة تحمل معنى ثابت في افق الشعر الكوردي الحديث والمعاصر، له ( مقطع من قصيدة) و ( الياقوت) من نوع القصائد التي تحمل الضربة الشعرية، اي الفكرة الخاطفة والناطقة بكل مضمون القصيدة، وعادة تكون جدا قصيرة، مما يعطي للقصيدة عدة اوجه في عند تحليلها وتأويلها.
الشاعر ارتد الى الضمير الجمعي في اعطائه المسار الفكري الواعي، حاملا الوعي والاحساس بالزمن، مستمد من الحياة التطور الملحوظ، سلوبه جميل ومتلبس بالادراك والفهم، حيث يقول:
أقبل فيضان اودعته فؤادي
فاخذه ومضى
هبت عاصفة، وضعت رأسي في كفها
فأخذته ومضت
تميز الشاعر سعد الله بروش في بنائه اللغوي، والمنطقي في استهلال الحركة التي عملت على اطلاق مفاهيم اكثر قوة منتشرة فيما اتت عليه بوجه لم يكن عليه مرغم، بل بقناعة كاملة ترك لها العنان في خوض هذه التجربة مع هذا الفيضان الذي سلمه فؤاده، وعندما هبت العاصفة ايضا سلمها رأسه لقناعة منه في انها لابد ان تكون بقوة العاصفة، لأنه موقن بان تكون النتيجة خيرا، انه يمتلك الجسارة والقوة والحب لخوض كل ما يعود على قضيته الكوردية، ومفردة (العاصفة) لها دلالة العمل القوي، وانها لا تبقي ولا تذر، وقضيته تحتاج لمثل هذا العمل، وما هي إلا تجربة ملازمة لحال الواقع، تجربة سلحته بالحب والمزيد من التعلق بالقضية، خاض غمارها دون خوف اوتردد، ومفردة (فيضان) عنى بها الوطن، لاشيء اجمل من تقديم الغالي والنفيس له حتى لو كان عن طريق الفيضان، فهو سلم الفؤاد والراس لقضية الوطن، وختم القصيدة بقوة اكبر نضج، تعبيرا عن الذي نتج من التجربة مع الفيضان والعاصفة، لدرجة انه لا يقبل اي جدل او نقاش في الحديث عنهما ووصل الامر عنده حد التقديس، وتقديس الشيء يعني عدم التراجع فيما اصبح ضمن العقل والنفس والاحساس لذا تجده في تساؤله الكبير والذي يحمل صيغة التحدي، يقول:
من بوسعه ايقاف النهر لينتزع منه فؤادي..؟
من يكبح الريح ليسترد منها رأسي..؟
بوضعه علامة الاستفهام في نهاية الشطر، يعني انه يتحدى من يريد ان يغير مسارات فكره تجاه قضيته التي هي اعز من روحه وجسده وما قدمه مازال لا يضاهي ما يملك من حب للارض التي ولدته والقضية التي صنعت منه انسان يفاخر بوجوده الثابت، اما قصيدة ( الياقوتة) يقدم فيها الامل المنشود، في اول المهام التي يود ان يحصل عليها " الياقوت" جوهر ثمين وجوهر القضية التي عاشها كل الشعب الكوردي تحتاج لصقل كي تبهر العالم، الشاعر سعد الله بروش، خاطب البحر في بوحه مطالبا ملك الماء ان يقف بجابنه في حمله ذلك الهم، وان يكون شاهدا على بزوغ النور، وهو الصياد الماهر، قاصدا بذلك الشباب من الجيل القادم أن يتمسكوا بهذا الهم، ذاكراً انه اصبح شيخ كبير، ويعي انه ملك التجربة التي تقود لإمتلاك الوعي والمعرفة والخبرة في التعامل مع الحياة، وان داهمة العمر، فالعقل مليئ بالفكار الناضجة، حيث يقول:
اغثني ايها البحر..
يا ملك الماء المنور
صياد ماهر انا ولكنني شيخ عجوز
روحي تطفح بدماء غربة متراكمة
الابداع حالة يملكها الانسان الذي يخوض التجارب الكبيرة، ليقدمها لمن هو من بعده آتي حاملا الرغبة في نفس المسار، ويقدم الانسان الذي يملك الخبرة للعالم عن طريق صياغته للافكار التي ملكها، والشاعر رؤياه اكثر ادراك لما مرَّ به وقادر على تسليط الضوء اكثر من غيره على المفاهيم التي يود لها البقاء، اللغة الادبية تحمل بؤرة التكوين لتلك التجربة، بنزعة استشراقية مواكبة للزمن مستحدثة معاصرة، مصورة سياق المشاهد العميقة للحياة، بالسمو المتولد لدى الشاعر سعد الله بروش، من ضوء عشقه لما خاض من تجارب اعطته الحافز لإغراء الذاكرة بالبوح الجمالي في قصيدته وصبغها بالمنجز الفعلي، معتمدا على الذات والواقع في وضعها بقالب الشعر، مصورا معطيات القضية بادخالها صورة عميقة مخلدا بذلك الواقع واخراج الحدث من قالب التجربة الى قالب التخليد، وطلبه للاغاثة رغبة منه في الوصول لحلقات النور بعد عتمة طال امدها، فنجده يقول:
ولا ارسو في منزل باعة الزهور
ولا في مجلس السكارى
يا ايها البحر.. يا ايها البحر..
يا ملك البياض اغثني
الشاعر سعد الله بروش، يقوم بتصيد جميل للرغبة التي امتلكها تجاه عملية التواصل فاعلا بقول أدونيس في كتاب "النظام والكلام": ( حين تغادر منطقة العقل / الشعور، كيف تقدر ان تنبش اللاشعور المكبوت، وتضعه على الورق؟.) ، وما قدمه الشاعر سعد الله بروش، هو بالفعل الابقاء على قوة العقل، حيثما تم الكشف عن مراوادات اللاشعور البوحية، بقوله:
صياد عارف بالماء وغائب عن الاعين
اوصي الامواج لتهدأ كما الرمال
عمري يمضي
واحسرتاه
انمي نفسي بياقوتة لقيا
لقد ابتليت بالضفاف..!
ما كان من الشاعر سعد الله بروش هو الانتماء القوي لنفسه وشخصيته المتأصل فيها حبه الشديد لارضه ووطنه وقضيته، ورغبته في الاستمرار بالعمل فيها لآخر نفس ولن يحيده عنها لا زمن ولا مجادلة ولاعمر، هي عمره وكل انتعاشاته ووجوده الذي كرس له كل همه بكل رضى وقناعة.
الكاتبة / ناقدة من العراق