يدُ امرأةٍ تُشبهُ الغيم .. تمطره بالفراشاتِ
كي يتشكّل حقلاً بريئاً ، وترفع عن كتفيهِ الحقائبَ ،
والآن نصف التذاكر في جيب معطفهِ ،
والربيع الذي زاره مرةً في الحياةِ
رماه بباقة وردٍ ....
ولكنه ...... أخطأهْ
ألمانيا
5-2-2004
القراءة :
انتماء إلى / الألم / الرحيل
( القابلة ) عنوان استوقفني وأعادني إلى نواح تموز وحزن عشتار ، .
( القابلة ) اختزال لعملية التناسل وديمومة تعاقب الأجيال
( القابلة ) حالة تشير بوضوح إلى رمزية الحياة كما المقابر تشير إلى رمزية الموت
( القابلة ) اختيار موفق لنص موفق تألق بطرحه الشاعر مفيد البلداوي كنمط أو فكرة جديدة في الكتابة قلما طرقت ، تحمل بين طياتها أكثر من صورة شعرية وأكثر من مشهد وأكثر من طرح ورأي .
وفـِقَ الشاعر فيها في اختيار المفردة الشعرية ووفـْق نسق معين و ضوابط معينه حددتها أحداث وشواهد القصيدة
و وفـِقَ أيضا في التنسيق بين الشكل والمضمون وفي الأسلوب أو البناء اللغوي لتلك القصيدة وتوظيف الكلمة الصحيحة في المكان المناسب والزمان المناسب لصياغة تراكيب صحيحة ميزت النص في الرهان على عنصر الزمن والاختزال و استخدام الجمل القصيرة في عملية رافقت المعنى التطبيقي لمفهوم الإيجاز لغة وأسلوبا فجاءت المقاطع تحمل أجندة خاصة مختلفة تحرك القصيدة باتجاه وعي ٍ مهمته كشف حقائق تبدو مجهولة لكنها ملموسة بالنسبة لذات الشاعر والمتلقي ، حقائق حملت فوق هاماتها الكثير من الألم والصدق والتحدي والتمرد والمكاشفة نتيجة العفوية التي رسم بها الشاعر البلداوي تلك الصور الشعرية التي عكست مصداقية الحالة الوجدانية والنفسية له والصراعات والتقابلات التي شكلت مشهدا مسرحيا حيا نابضا ملما للشروط ينقلنا إلى الأركان أو العناصر التي يمكن تسليط الأضواء عليها :
1ـ عنصر المكان = خشبة المسرح ( الأحداث ) = الأرض = سومر
2ـ القابلة = الحياة (الأم الراعية ) خصها الشاعر في هذه القصيدة لتمثل حياة
العراق كحضارة وحياة العراقي كألم وعطاء ، كطائر غريد يحمل جرحه ويصدح منذ فجر السلالات بالخير والعطاء ليلوذ هو بالأحزان ( سر قوته )
3ـ عنصر التأريخ = شاهد العصر بحاضره القريب ومستقبله وماضيه القريب والبعيد
4 ـ المولود = الذي كشف معاناة الأجيال الحاضرة من اضطهاد وهيمنة ودكتاتورية واستعباد ونفي وترحال وتحدي !
((( في دولة تتعمد تعبيدنا ..... والشوارع ، )))
5ـ عنصر الصمت = تلازم بين البكاء والحياة
كتلك الملازمة بين العلة والمعلول فأينما تجد العلة تجد المعلول وهو الحال بين الدال والمدلول فالبكاء هنا وحين صفعت القابلة خد المولود أرادت أن تُسمِع تلك الصرخات التي تعلن عن وجود كيان سيكون له اسم وهوية في المجتمع وهو ( دال ) لأنه سينقل تفكيرنا ووعينا إلى وجود مسمى آخر هو الحياة ( المدلول ) وهذه هي صفة أو حالة ( الدلالة ) = ( اثر ومؤثر )
......................
وإذا اعتبرنا الشعر هو حالة موسيقى وبالتالي هو حالة غناء فان صمت المولود في هذه القصيدة هو غناء صامت = بكاء صامت = حزن صامت مفروض وربما احتجاج صامت ، لأنه صمت متعمد ! تطرق إليه الشاعر علنا وعلله بجملة تأويلية ليشركنا معه في خوض وتحليل تجربة سر ادخار الدمع :
((( تقول التي استلمتْ رأسهُ :
لم يجئ باكياً،
كان يدّخرُ الدمعَ ، )))
لكن القابلة كسرت رحلة تأملاتنا والتأويل هذه و كسرت هذا الصمت بصفعه كي يعلن البكاء أو يتباكى لأنه وكما فصل الشاعر ذلك سيحتاج الى البكاء كثيرا في المستقبل وكذلك ألان في ساعة الولادة لأنه وبالفطرة سيشتاق إلى صوت أمه وهي ترتل (( الدليلول )) تلك الهدهدة وذاك اللحن الشجي الحنين المتوارث من الأمهات السومريات الذي يجبر الأم على البكاء وهي تردد كلمات اللحن الخالد فيشرب الطفل الدمع والحزن و ينام !
6 ـ عنصر الألم والتحدي = انتماء إلى الرحيل
هنا في هذا المشهد جسد الشاعر حالات مختلفة من الصراعات منها صراع بين الموت والحياة والجهد المبذول من قبل القابلة لولادة ذلك الطفل المتمرد الذي أراد أن يأتي إلى هذه الدنيا واقفا ليموت واقفا على اغلب الظن ! وصراع آخر بين الاستسلام والتحدي ولعب دوره ببراعة خطها الشاعر القابلة والمولود معا فهي لم تستسلم إلى وضع الطفل المغاير للمعتاد وهو الرافض لعملية النزول صاغرا على رأسه متحديا العرف المتبع لولادة الأطفال فينقلب وهو في الأحشاء لينزل على رجليه كي يعلن ان الرحيل هويته والمنافي قدره ! كما أوضح الشاعر :
((( وأول ما خرجتْ قدماهُ..!
لكي يتحسّسَ أي ترابٍ سيملأُ عينيهِ،
أو ربما كان يعلنُ أن الرحيل هُويتُهُ ،
وانتعال المحطات في غدهِ ...
يتشكّلُ في يده مِنْسأةْ..!)))
هنا نقطة لابد من الإشارة إليها في هذا النص :
هنالك تلازم بين انتماءين : الانتماء إلى الألم الموروث والانتماء إلى ارض سومر ( العراق ) وبما أن الأرض سومرية عراقية والمولود عراقي حسب المشهد وذاك التلازم المعلن في أجواء القصيدة وهذا يعني أن الشاعر مفيد البلداوي ( ذلك المولود المتمرد ) نطق أو كتب ( بالصمت ) شعرا
((( فلما رأى فرحتي ..
راح يكتبُ بالصمتِ شعراً ، )))
حتى قبل أن يفتح عينيه و قبل أول رضاعة ) انتماء فطري عراقي إلى الشعر ) حقق أو طابق بهذا بالقول والفعل حقيقة أو مقولة المرحوم محمود درويش في عملية التلاقح بين الانتماء إلى العراق وعالم الشعر :
= كن عراقيا لتصبح شاعرا =
مشاهد الصراع والتحدي في هذه القصيدة مستمرة لم تنته بعد متمثلة هنا في القماط الذي رفضه ذلك المولود وخروجه عند ديدن العرف المعهود و رفض القيود
((( ولمّا عصى أن يُقَمَّطَ ،
قلتُ : سيكسرُ أعرافَنا .... والقوانينَ ، )))
، وهي إشارة ذكية من الشاعر لرفض أي منطق يتعارض وحرية الإنسان وفكره ومعتقداته ومصالح المجتمع والأفراد في جميع مراحل الحياة ابتداء من الطفولة لتقاليد أو أحكام أو أعراف أو ظلم واضطهاد وان تعرض إلى الصفع والأذى الذي قد يقوده إلى السجن أو الموت ، ومن هذه المفاهيم التي صرحت القابلة بها بأنه ربما يؤمن بها :
(((أو ربّما قالَ في سرِّهِ :
الاعوجاجُ السبيلُ إلى الاستقامةِ ... )))
هي قالت ـ ربما ـ ولم تجزم كي تفتح الأفق أمام التأويلات لهذه المفاهيم وهذا أمر طبيعي بان المفاهيم والمعتقدات هي ليست مطلقة التوافق عليها فكما الأذواق تتباين فان الآراء وفهم الأمور والاعتقاد بها أيضا يتباين حسب الظروف والمصالح الشخصية . مفهوم الاستقامة والاعوجاج هنا بشكله العام المعتاد هو العدل وهو المساواة وهو الحق والإيمان والاعتقاد وغيرها من الصفات الحسنة تقابلها مفاهيم الاعوجاج أما الشاعر فقد أراد لها مفهوما مغايرا حين رسم او صور او عبر عن مفهوم الاستقامة والاعوجاج وحسب علم البيان بالصورة التهكمية فتركيب ((( الاعوجاج السبيل إلى الاستقامة ))) هو تركيب يحمل ـ استعارة للتهكم ـ بدليل البيت التالي ((( في دولة تتعمد تعبيدنا ...... والشوارع ثُمَّ تعلّق فينا فوانيسَها المُطفأةْ ))))
وهي صورة شعرية تعبيرية راقية ، وهناك مفهوم آخر للاستقامة والاعوجاج يمكن الإشارة إليه وهو بعيد كل البعد عن مفهوم ـ التهكم ـ ويستشف من خلال التباين في فهم وتقييم الأمور فقد ترى فئة أن المنجل اعوج وتصر على اعوجاجه ودليلها شكله الخارجي المعقوف الذي لا يقبل الشك لكن الفئة المقابلة ترى أن سر استقامة المنجل في ذلك الانحناء أو الاعوجاج ودليلها عطاء المنجل وهي فلسفة ورؤية مغايرة
ترجح الجوهر على المظهر ...وهو حال الفن كمثال آخر حين يشترك مع مفهوم الجمالية بعامل ـ الإتقان ـ فكلاهما ينبع عن الإتقان والإبداع والجمالية تعتمد بطبيعة الحال على الشكل أي صورة الأشياء وأوضاعها فلا يمكن أن نحتسب الزوايا أو اعوجاج أو انحناء الخطوط في الشكل من القبائح واعتماد الاستقامة كمصدر وحيد للجمال
بعد هذا التكثيف الصوري والمعرفي يخرجنا البلداوي مفيد الشاعر من الحالة الوصفية ودور الراوي على خشبة المسرح إلى حالة المواجهة المباشرة بين القابلة والمولود حين بنى جملة وهو تعبير له دلالات ونتائج مترتبة ودخول في مرحلة الوعي ((( وحين بنى جُملةً قال لي :
(( بلّليني بما يٌشبهُ الماءَ ،
واغتسلي بالكلام المطهّر ... وامضي،
اتركيني ..... سأنبتُ سنبلةً ، ))) :
هنا في هذا المقطع تتوهج قدرة الشاعر التصويرية بإضافة عنصر المفارقة والدهشة وسحب المتلقي إلى مرحلة الترقب والتحليل والتأويل وربما الدهشة لأنه لو لم يقل في هذا المقطع بلليني ( بما يشبه ) الماء وقال :
ـ بلليني بالماء لحسم الأمر لصالح التبسيط وعدم دفع المتلقي إلى البحث والاشتراك في التحليل . ويأتي الجواب من القابلة حين تقول :
((( بلّلتُه بالدموعِ ..... وصيّرتُها ملجأهْ !! )))
وقد فرضت عليه الألم والدمع ليكون ملجأه بعد أن خرج هو من ذاته ومعاناته النفسية وأراد أن يبني مشهدا بعيدا عن تلك المشاهد الدرامية التي سبقت هذا المقطع
((اتركيني ..... سأنبتُ سنبلةً ،))
هنا حيز ولو بسيط من الأمل المقيد والانفتاح وان الخير موجود رغم الشرور وان الحب موجود رغم الألم المنقوش على كل حبل سري لكل طفل عراقي
((( واتركيها .... سيحصدُها الحبُّ....
يطحنها .......ثم تخبزها الفقراءُ
ويأكلُها الجوعُ ....))
ويعود الراوي مرة أخرى ليروي لنا مأساة الشباب وهم يحلمون ويبنون الآمال ويخططون لبناء فرد صالح في هذا المجتمع لخدمة هذا الوطن بالتفاني والعلم والعطاء والحب والعدل والمساواة إلا انه يصدم بالمستحيل الذي أذلهما هو وأحلامه ((( وصاحبَ أحلامهُ ،
صاحيانِ يسيرانِ ...غضّان،
حتى إذا بلغا ذروة الاعتزاز ... أذلّهما المستحيلُ،
وآذاهما مدُّ كفيهما للجهامِ،
فَردّا على عقبينِ أليمينِ ..
يبتسمانِ ..
ويستحلبان ضروعاً من المِحنِ المرجأةْ !
وخلّف أحلامَهُ كلها في الأزقة )))
وآذاهما ذلك السراب ومد اليد وطلب الماء أي العيش الكريم من الجهام ( السحاب الذي لا ماء فيه ) وفاقد الشيء لا يعطيه !
وآذاه أكثر ذلك الرحيل وتلك المنافي التي لم تعطه حقه ولم تقدره حق قدره وقد شيد أحلاما وأبنية قبل مواجهتها له وعزله عن كل ما هو جميل في داخله وما حوله فلم يحصد غير العزلة والجوع وقتل تلك الآمال في داخله والتفرقة بسبب لون الجلد والشعر والعيون والجذور وما يتبعها:
(((وعلّقَ زُوّادةً بالعصا..
وامتطى بحثَه عنهُ
في مدن تتكدّس فيها الوقاحاتُ.... والتعساءُ،
يهشُّ على جوعهِ بالعصا
ويشكّل أضلاعَه ، لمساكين يُعْتَصَرون بها عنباً ، مِدفأةْ !!
توهّمَ أن حانَ وقت البكاء،
بلادٌ يُسمى بها في البلاد الغريبةِ ،
تغرسُ أوجاعَها في يديه ،
وتُعطيه أوصافَه؛
أسود الشَّعرِ والشِّعرِ،
قمحيةٌ وجنتاهُ ..... عطاء السنابلِ ،
عيناه شَهديّتان.. لكي يتذكّر مرَّ المرائي!!
ويمشي الهوينا ..
كجرحٍ تجنّبَ مَن أنكأهْ! )))
صراع الشاعر مع الظرف الخارج القاسي تبعه بالقوة صراخ داخلي وتفاعلات نفسية لها انعكاسات سلبية على طريقة التفكير وأسلوب مواجهة هذا الصراع والحكم على مجريات الأمور الحاصلة والتي يتوقعها مستقبلا وانعكاسات إيجابية في الجانب الآخر حفزت أعماق الشاعر وفتحت قريحته نتيجة انفعالات حقيقة مرتبطة مع الجوهر بعيدة عن الافتعال والتظاهر لتخرج هذه القصيدة الاستثنائية في طرحها وفكرتها وصورها الشعرية المتراكبة وقد تداخلت الكلمات فيما بينها واللغة مع اللغة والفكرة مع الفكرة بشكل متسلسل أنيق يشد القارئ ويقوده طوعا ويتنقل به مع الحدث والقص بانسيابية متكاملة . هنا وكتحليل لمفردات النص وأطره وأشكاله وقيمه الأدبية واللغوية والفكرية التي تجزم وبما لا يقبل الشك بان تلك الظروف القاسية التي أحاطت بالشاعر وأوجدت هذا الصراع وذاك الانكسار النفسي الذي حصر الشاعر في زاوية حرجة ولحظة حرجة أنتجت قصيدة كتبت بعفوية ومن غير تحضير مسبق ومن أجمل أو ابرز سماتها إنها وليدة لحظتها التي منحت المفردة الشعرية زخما وتركيبات دلالية وبنيوية مفتوحة يسرة خالية من الضبابية والتعقيد والطلسمة ، فمفهوم الرمز هو الإيحاء الذي تجد له صدى في القصيدة وليس جسما غريبا يثقلها وليس تعقيدا وتوهانا ولغزا يصعب فك رمزه وهنا الفارق الكبير بين الرمز واللغز فالرمز والغموض المستساغ هو الذي يفرض على القارئ الجيد والناقد الولوج في أعماق النص واستخلاص ما خفي من أفكار واتجاهات ونقاط ويفرض أيضا وبشكل عام حالة التعدد والتقارب والتضارب والتقاطع في فهم المعاني والتأويل لان ثقافة المتلقي تتداخل مع المساحة الرمزية واتساع الرؤى وهو ما تحقق هنا في قصيدة القابلة للمفيد البلداوي وتحقق فيها أيضا ملازمة أو تآلف بين السهولة والتمنع وهي لعبة المتمرسين المتمكنين من أدواتهم اللغوية والفنية والشعرية والإبداعية والعارفين لقواعدها لان الخوض في هذه التجربة دون دراية كافية وسطحية في فهمها يفسد مذاقها ويضعف النص وقد راهن المفيد هنا عليها وكسب الرهان ببراعة المتمكن والواثق بان الشعر هو قيمة إنسانية وسلسلة مفاهيم وسلوكيات متداخلة تطرح بعناية لتفهم ولتلامس العمق وتمنح المتلقي المتعة والإحساس بحالة التعاطف أو التضاد من خلال التفاعل مع الفكرة القائمة أصلا على الإيحاء والتخيل والرمز والغرابة واللامحدودية و المفاجأة والصور الشفافة التي تثري الحدث وهذا التفاعل هو وحدة قياس قوة أو ضعف النص حين يترك ذلك النص ذاك الأثر الملموس في نفس ووجدان القارئ ومدى تفاعله معه
وكحسن ختام لهذه القراءة أبدأ من حيث انطلاق فكرة القصيدة ولحظة الانطلاق هذه ليست بالضرورة أن تكون أول كلمة أو أول مقطع من القصيدة فهناك من يفضل المقدمة التي تسبق الدخول في الفكرة لكن الشاعر هنا فضل بعناية الانطلاق من مساحة عريضة ومن أول كلمة وأول مقطع في القصيدة
(((تقول التي استلمتْ رأسهُ :
لم يجئ باكياً، )))
مبتعدا كليا عن التقديم الذي لم يقع في فخه في هذه القصيدة وكان صائبا لان إضافة أي تقديم في هذه القصيدة سيكون غير مبرر ، لأنه ربط هذه البداية ( الانطلاقة ) بآخر مقطع في القصيدة
(((والربيع الذي زاره مرةً في الحياةِ
رماه بباقة وردٍ ....
ولكنه ...... أخطأهْ )))
كمحاولة إلى تدوير الأحداث والعودة إلى نقطة الصفر التي انطلق منها لتعيد الأيام عليه دورة الألم والحرمان وخيبة الأمل والترحال والبحث من جديد في مدن تتكدس فيها الوقاحات والتعساء وتغرس أوجاعها في يديه ، عاد كما جاء إلى هذه الدنيا بخفي حنين ، يهش على جوعه بعصاه بعد أن اخطأ الربيع هدفه / هو / في رمية وتر غير مشفوعة ! يفهم منها أن يد تلك الحسناء التي امتدت إليه والتي تحمل ذاك الربيع وأمطرته بالفراشات وهي رمز الفرح والبهجة والبراءة والحرية والانطلاق ورقة أجنحتها التي تدلل على رفاهية العيش ويسره ونعومته ، تلك اليد قد تكون يد امرأة التقاها ،أحبها ، منحته بعض الأمان والحب ، امرأة لملمته ، زرعت الأمل في عينيه ، شاطرته بعض آلامه وحزنه ، دخلت بين مفاصل أفكاره ، فهمته ..... هكذا يبدو المشهد حسب الراوي ( الشاعر ) وسياق الأحداث ، هكذا فهمها هو وقيمها وبنا آماله على هذا التقييم الذي خذله وأعاده إلى المجهول الذي جاء منه ، ربما لم يصادف هو أصلا تلك اليد الناعمة لكنه كان يخاطب بإلحاح وترجي عقله الباطن ـاللاواعي ـ ليرسم له تلك المواصفات ويحمـِّلْها تلك المواصفات ويحبها ذاك الحب لتمنحه نعومة الحياة والسكينة التي يحلم بها منذ ولادته ولم يجدها لا هنا / في هذه الأصقاع النائية الموحشة رغم ما تحمل من تمدن وحضارة وتقدم ورخاء لأنها غريبة على نفسه وعلى تراثه وأخلاقه وعاداته وتقاليده وثقافته وواقعه / ولا هناك / في بلده الذي حرمه الاستقرار ورغد العيش والكرامة والأمان / وحين لم تحقق أماله قال أن الربيع أخطأه !
ويمكن لهذه اليد أن تمثل ـ الحياة ـ التي أقبلت عليه ثم أدبرت / أخطأت هدفها / وهذا الاحتمال لا ينهض أمام فهمنا الواقعي والتجريبي للحياة وأمام حقيقة الحياة التي لا يمكن أن تخطا هدفا ، الحياة ذكية بما فيه الكفاية ولا تـُقبـِل على هدف إلا بعد استمكانه جيدا وتحديد وتعيين أبعاده ، هي تعلم على من تقبل وتعطيه ما يستحق وما لا يستحق وتعلم أيضا كيف تدير ظهرها ! وإذا أسقطنا هذا الاحتمال حقا فإننا سنعطي للصدفة أو الفرصة حظا أوفر لدخول هذه القرعة كاحتمال آخر ، وقد يؤكد هذا الاحتمال إقرار الشاعر بان هذا الربيع زاره لمرة واحدة ، الصدفة هي عشوائية الحسابات والأحداث غير المنتظرة وقد تأتي خطأ وتصيب هدفها أو تخطئ الهدف / والفرصة وكما هو معلوم عنها أنها تأتي مرة واحدة في الحياة ، لكنه ولسوء طالعه أخطأها أو أخطأته !!!
الدكتور نجم السراجي
النمسا 07.01.2009
التوقيع
الدكتور نجم السراجي
مدير ومؤسس مجلة ضفاف الدجلتين ( 2008 )