ليست مصادفة أن تصالح ما بينك وبين ذاكرتك.. ثمة اتفاق..... أن تنسى !
تبضع الزمن ، تمسك الجزء الظاهر منه ، تحذر نفسك لتضمن ديمومتك بالنسيان ... أحيانا وحين تعصف بك ريح الاشتياق يصادف أنك تنسى أن تنسى / تتكاثف الذكريات أمام عينيك / ترى صورة أمك ، تفرح للحظة لأنك رأيتها ثم تبكي
***
وأنت تودع دمعها حيث المجهول .. بعيداً عن شمسها ، حذرتك من ريح الشمال الباردة / قسوة بردها لا يطيقها جلدك الأسمر/ منحتك رغيف خبز وأحاطتك بسر الدعاء ...
كل يوم تسقي زهور القرنفل والياسمين .. زَرَعَتْها بشكل منتظم في زاوية من حديقة البيت الشرقي الصغير... تحاكيها ! تشم رائحتك / ترى صورتك / فيها ،تضمها ، تسمع أنينك المكتوم في ـ تيه أعماقك ، وجدانك ، حالة وعيك ، أسر رغباتك ، صرخاتك الخرساء التي لم تمارس لعبة التمرد بعد وأنت تجلس القرفصاء هناك ، تقضم ما تبقى من أظافرك ،
هي ـ الأم ـ في داخلها قوة ٌ، سر ّ ُ لا يسمح لأي شك أن يراودها ، هي قوة الفقراء التي تصنع الخبز من عرق الأرض وبسمة السنابل وزقزقة العصافير حين ترضع الفجر!
قوة خفية تسري بين أصابعهم ، تنتشر في أجسامهم ، تطلق إشاراتها حين تتمركز في العمق كي تمنحهم لغة التفاهم فأصبح " الخبز " شفرة التمرد و رفيق الفقراء ....
رحلتَ ، كمن يهرب من الشيطان إلى الشيطان ، كمن يهرب من الرمضاء إلى النار ، تحاول جاهدا إطفاء وعي ذاتك الوقاد كي تخلق وعيا خاصا يلاءم تبريرات ضعفك / رحيلك / ويخرجك من حرجك ... أمك َ تركتك تذهب كرها لكنها راهنت على / عودته فيك وانتصاره لك / ذاك الذي تريد قتله في باطنك ... ما بينك وبينه وعي يتحرك في أعماقك وضمير تحاول طعنه كي يقبل المساومة ، ما بينك وبينه " قضية " آمن بها عمك الذي خرج في تظاهرات الجياع ، كادت أن تتحول إلى ثورة تسقط السنة لهب الحاكم لولا تسلل النفعيين ورغبة الشيطان! اعتقلوه خلف الشمس ، لأنه كان يرى العالم بعيون الفقراء ... هناك من ينتظره ، يحرس قصيدة نسج حروفها لتسكن أروقة الفكر ! لم يعد عمك يسمع صراخ بناته ويأنس بعراكهن / تجد كبيرتهن مؤهلات القيادة والسيطرة في نفسها وتطلق الأوامر وفي كل مرة لا يستجبن فتصرخ فيهن متوعدة وكثيرا ما كانت تلجأ إلى الدعاء فتدعو الله عليهن بالمرض والعمى ، يضحكن ويضحك هو وتضحك أمهن وهي تغلي /
ما بينك وبينه " قضية " آمن بها والدك ومات يحمل ظلها ولا زالت والدتك تقاوم حتى لا تكسرها الأيام وتميل عن نهجها .
ما بينك وبينه موقف هو صابر عليه ، يرى من خلاله " أمه " التي سلكت طريق
التعبد مع زوجها بعين الكبرياء ويراها من خلاله بعين الملاك ففرش لها مقلتيه محرابا وأذن للصلاة الله ...... أكبر ،
أغاظك صوت الأذان فكرهته واستصغرت فكره وأدمنت طعنه حين
فتح صدره لحوافر خيلك
ستسمع أكثر!!!
دعني أنت يا " أنا " ... أقف في بلد الجليد متوسلاً أمام عينيها ، علـٍّي أجد فيهما رضاً وبين طيات ثوبها مكاناً ألملم فيه بعض أجزائي ، يستطيل بي السراب من خلاله إلى شمس باردة ترقص فوقها حور الأنس " الفلامنكو " فتستحيل تحت أقدامها ثلجاً وسرابا..
دعني .. أغوص في المجهول ، في زرقة عينيها ، أنوثتها المميزة ، بياضها المتورد الأخاذ وسحرها الأسطوري ، ارقص لها على أطراف أصابعي ، أغويها كطاووس يمارس طقوس إغواء أنثاه المغرمة بطول ذيله وعدد الدوائر المرصعة بعناية عليه .
لا ، لن أعود / إليك / يا أنا ، أنت تسمع أنين والدتك وتشم عطرها الملائكي واسمع الآن أنا همس شفاف يخرج من شفة خرافية يغريني ، وعطر انسي يدعوني إلى قبلة ملحمية تمنحني شهد الخلود :
عد إليك أيها المسكون بهوس اليقظة
وانزع حبل رقبتك
فاليقظة " إعدام "
دعيني " أمي " ... هل نسيت ِ ذلك الصباح الذي اقتادوا فيه " أبي " وجاءوا بشهادة إعدامه / دفنوه سرا ! صفعوا خد " مها " الناعم الصغير لأنها بكت ، منعوك من البكاء ! حين جن الليل ونام عسس المكان بكيتُ أنا وبكت أختي ، رأيتني انظر في عينيك انتظر أول دمعة ِ تعلق في طرف انفك ِ ليذوب ملحها في مرارة حزنك ِ وتعلن ثورة حزنك الصامتة ، انتظرتها طويلا ً ... لم تأت ِ !
ـ أي قوة تختبئ تحت أضلاعك أمي ؟ أي قوة حبست تلك الدمعة في المآقي ؟ أظنها نفس القوة التي دفعت أبي إلى مصيره لأنكما جزء من القضية !وربما حجم المأساة كان اكبر من دمعك ...
ترجل خيَّالك "أمي "
رحل
ترك للحب ألف وصية
ترك مهرة بلا وطن !!
ستشاطرك روحه الملائكية لقمة " الفراق " لكنها لن تشاطر ابنتك لحاء " اليتم "
أين أبي ليأخذ بيدي ... ؟ أنا أضعف من أن أواصل المشوار
دعيني" أمي ".. أذوب في حمرة خديها علـّها تنحت لي تمثالا بركبة حمراء من الثلج النازل بغزارة منذ ليلة أمس وأنا أقضم في حضنها آخر قطعة من جلدي الأسمر.
***
" يُمَّه شمال وباردة وشلون قلب الوالدة " *
***
ـ لم تع ِ كلمات " أمك " هذه إلا حين عصفت بك ريح الشمال في ليل بارد موحش ، تجمدت أغصان الأشجار فيه وكل الأشياء المتحركة من حولك إلا الثلج النازل ووحدتك وصمت ذاكرتك ومرارة الأيام ودمعة توسدت هدبا ً تلمع في عينك ....
وحينَ رماك الدهر فوقَ الهوامش
وَجدتك في جوف التيه تبحث عن سمرة جلدك ... لم تجدها / اغتصبها عريك ولون الثلج.
تتوالى الليالي وتزداد كل يوم من حولك تلك الكتل الثلجية ، أحاطتك ، حاصرتك فوق سرير نومها الحريري ـ توغل بردها إلى جلدك ! سلخه عن جسدك ، أراك عريك وأنت في سكرة ٍالذل ! ثم ألبسك معطفا من الثلج وقبعة من برد أزرق ......
! شيء مبهم هوى على صدرك!!
صرختَ :
أمطري يا سماء أمي ! اغمريني ، أعيدي إلى جلدي سمرة السنابل المسروقة ...
ليْ أن أتطهر بدمعك ِ ، أتعفر بترابك ِ ، أصلي في محراب تعبدك علّ ذنوب من اجتمعت خطايا الدنيا في خاصرته تغتفر ...
تعال أنت يا " أنا " أيها العابرَ بروحه جنب فراتيك ونخلة الدار وصرائف الطين وتعفف الفقراء....
أعدني إلى أمي ِ طفلاً رضيعاً ارتشف من حنانها ، اصرخ ، ابكي ، ثم أنام بين يديها على نغمات صوتها الدافئ وذاك اللحن الخالد الحزين :
ـ دليلول يا الولد يا ابني دليلول ............ *
بكيت'
عرّاب الخطايا " أنا "
دمعة / جمرة / واحدة
لا تكفي " لتطهيري"
اهبطي ملاكا " أمي "
انتهت
د. نجم السراجي
الدانوب الأزرق 2.2.2010
* مطلع قصيدة شعر شعبي باللهجة العراقية ارتجلتها والدتي حين فارقتها دون وداع تحذرني فيه من المخاطر المحيطة وتذكرني بقلب الأم المنكسر وحنانها ، أدخلته هنا في النص كي لا تدثره الأيام
* دليلول يا لولد يا ابني دليلول : هدهدة الأم العراقية لطفلها ، وهو لحن من التراث الشعبي العراقي القديم تردده الأم لطفلها حتى ينام.
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
التوقيع
الدكتور نجم السراجي
مدير ومؤسس مجلة ضفاف الدجلتين ( 2008 )