رد: مسابقة منتديات نبع العواطف الأدبية للقصة القصيرة
القصة رقم (9)
الحسون
لغرب أتجاه اجباري ، و من السهل التعرّف إليه . انبطح تحت السلك الشائك ، و زحف على ظهره ، اطمئن أنّ لا شيء موجود في المكان سوى أنوار يتوه شعاعها في عتمة الليل .
نهض … و سار …
تلك الرائحة تشبه الى حد كبير رائحة جسد ( ريتا ) و يؤكد لنفسه أن تلك هي الحقيقة . و في لحظة استرجع كل اللحظات التي مرّت عليهما .. و المطر يبلل شعرها ، تهرع الى جذع زيتونة تستظل من مطر منهمر ، يرمي بكل قوته الى قدميه ، يعدو ثوراً هائجاً ، يلتصق بها ..
و يهز جذع الشجرة ، يتساقط الماء الذي حبسته أوراق الزيتون و يلتفت ضاحكاً :
آه أين ستهربين ؟ فقط مكان واحد يحميك .
تضحك و تسأل : أرجوك أين ذاك المكان ؟
يتجهم قبل أن يجيب :
- قلبي
لا يدري و هو مقدم على عمل لا يحمل من الأمان بقدر ما تحمل نخلة من حبّة برتقال .
أثناء المسير لم يتذكر أنّ رفاقاً أربع يسيرون خلفه ، و كأنه ليس كرّازاً يتحمل مسؤولية ما ، لقد أغرقته سنون الغربة بوحشتها ، لم يكن يشعر بأن أي مكان يسكنه أو يأتيه جدير به .
بقي مشدوداً و الحبل السري يربطه برحم ذاك الجبل البعيد ، في تلك المغارات خبأ روحه ، و على تلك السفوح زرع بعضاً من تاريخه ، أصدقائه الشهداء يراهم مصابيح أشعلت بدمائهم ، هل يا تري هذا الذي يسمعه في انتصاف حركته، ارواحهم جاءت تزفه ؟ أم هي نداءات ( ريتا ) أرسلتها حرزاً يطوّق روحه ؟
كم من الوقت مر ؟
انتصب النهر أمامه …
وصل الرفاق ، امتشق حبلاً و مرساة صغيرة ، تأكد من رسوخها و بدأ العبور .
عندما لامست قدماه سطح الماء ، تدفقت أسراب من السمك باتجاه حركة الماء ، و اقتربت من ساقيه ، و بدأت بتجربة القضم و استمر بتحريك جسده ضارباً الماء بحذائه ، تمسك بالحبل ، صرخ رفيق خلفه :
ما أبشع أن يقضمك السمك .
وصل الضفة الاخرى .
كان ( حسين ) قد فقد جزءاً من لحم ساقه ، و بدأ الدم يلوّن سرواله ، و بسرعة تم تطهير الجرح و ربطه كما يجب .
- قال ( محمد ) : ما أجمل أن يموت الانسان بين أنياب أسماك كهذه ، و لكن إذا مات هل يسجّل شهيداً ؟ .
التفت ( عادل ) قائلاً : كل الطرق تؤدي الى الجحيم. جمعوا أشياءهم و تابعوا ..
بدأت المصابيح بالاقتراب ، و بدأ الجبل بالزحف تجاه الشرق ، و المغارات ضاقت بكل الارواح ، و أطلقتها في عرس القادم …
بدأت طرقات الجبل الضيقة تفك طياتها ، تتدحرج ، تمد بساطاً من تراب وطين ..
كان يصعد و الطريق يعانق السماء ، لحظة إذا التفت الى الخلف ، لم ير شيئاً سوى ظلام يلف السهل ..
بحث عن لحظة ، حاول أن يتذكّر حادثة ما ، كان كل شيء قد سبقه الى الأمام ، أعاد اتجاه سيره و انطلق ..
عند القمة توقفوا ، هنا سنرتاح ، توزع الرفاق .. بحث في المكان ، صعد على جذع شجرة خروب وأسند رأسه لتقاطع فرعين ، و بدأ العد .. و قبل أن تلامس خيوط الشمس الأولى أي مكان في الجبل ، لا مست جبينه المتعب .
فتح عينين أرهقهما المسير و الظلمة ، سمع صوتاً يناديه ، لم يكن بعيداً ، كان يقف قبالته طائر حسون ، حدّق ، نظر الحسون إليه ، تبادلا النظرات استوحى من حركة عين الطائر و غشاء عينيه ، أن زمناً مر لم يرى أحداً ، ولا يفزعه وجود ما و كأنه اعتاد الغربة ، و الوحشة ، و الوحدة ، و وجد صديقاً لا يخافه كما لا تخشى الدجاجات زميلاتها .
صدح الحسون ، و عزف على أوتار صوته أنغاماً أثارت فيه شجناً و أُنسة و كأنه صديق لهذا الطائر الجميل .
حاول أن يقترب منه ، دفع رأسه الى الامام ، اقترب أكثر ، حرّك الطائر رأسه ، و كأنه يبحث عن شيء في هذا الفضاء ..
لحظة إذ أيقن أن الحسون مسكون بالشهداء .