قراءة نقدية في مجموعة الانتظار في ماريون للشاعر العراقي عبدالخالق كيطان
مقدمة لقراءة / الانتظار في ماريون
السرد / ومهيمنات البناء الشعري
· علي سعدون
إذا كانت قصيدة النثر المعاصرة تعتمد المهيمن الأساس ( اللغة الشعرية ) على حد تعبير الشكلانيين الروس / فما لذي يمكن أن يقدمه السرد هنا .. وكيف يمكننا أن نفصل نقديا بين السرد كآلية اشتغال قديمة وراسخة في مجمل الأجناس الأدبية وبين اللغة الشعرية وإجراءاتها المعروفة كالتكثيف والإيجاز والاستعارة والكناية الخ والحال ذاته مع تداخلهما سوية .. / بمعنى إننا هنا إزاء إشكالية تتمثل بمعمار النص الجديد ( قصيدة النثر على وجه الخصوص ) والتي يشكل السرد - كمفصل بنائي - احد أعمدة معمارها / ولسنا هنا في معرض الحديث عن تداخل الأجناس الذي بات هشا استنادا لنظرية التناص ونظرية القراءة والتلقي وغيرهما الكثير مما يعمل على فك الاشتباك النقدي في تحديد الجنس الأدبي المعين للاشتغال الأدبي ..
يمكننا أيضا أن نعيد صياغة السؤال ذاته من جديد كيف يمكن للسرد ان يمنح نصا ما أفقا شعريا وهو الذي يتوافرعلى متن حكائي او تقريري كواحدة من بديهيات السرد هذه الأسئلة وغيرها ربما ستكون مقدمة لقراءة مجموعة (( الانتظار في ماريون )) المجموعة الثالثة لعبدالخالق كيطان / الصادرة عن دار الفارابي / بيروت 2007
في القراءة الأولى لنصوص المجموعة تتضح مجموعة من السمات والملامح تشير الى آليات الاشتغال واهم ما يلفت الانتباه هنا هو توفرها على مساحات السرد الشاسعة في تناول الموضوعات المختلفة / السرد وحده يتسيد متن المجموعة غير آبه بتقنيات الاشتغال الأخرى وهي طريقة بناء يحاول الشاعر من خلالها أن يجد لنفسه مساحة تفرد تختلف عن اشتغالات أقرانه ..
الجمل الشعرية في مجموعة الانتظار في ماريون تكاد تكون كلها جملا طويلة وهو ما يؤكد نزوحها نحو السرد ، إذ لا يمكن لجملة شعرية طويلة أن تستمد مبررات سيرورتها إلا من خلال مبنى حكائي او سردي وهو ما نسميه اصطلاحا او جدلا بطاقة السرد المتواترة في الشعر تحديدا وفق معطيات لايمكن أن تقبلها غير قصيدة النثر / فشعر التفعيلة مثلا وهو أول شكل شعري انتبه لأهمية السرد لم يستفد منه قدر استفادة قصيدة النثر / واستحضر هنا قصيدة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب كواحدة من أهم وأشهر قصائده والتي تتضح فيها بنى سردية متعددة لكنها بقيت في حدود الجمل القصيرة ، مثال اخر يتجسد في التدوير الذي عمل عليه سعدي يوسف وهو يؤسس مرحلة أخرى للاستفادة من طاقة السرد المتاحة التي شكلت انعطافة واضحة في القصيدة العراقية . وفي ضوء ما تقدم نجد أن عبدالخالق كيطان يصر على أن السرد وحده يصلح كأدة اشتغال شعري بنى في ضوءه مجموعتيه ( نازحون ) و( الانتظار في ماريون ) والأخيرة هذه هي الأكثر جدوى ونضوجا من مما سبقها من حيث معمار الجملة الشعرية ( على أساس سردي بالطبع ) وصولا الى استعاراته وكناياته المتعددة .. ،
( في الانتظار في ماريون / لا يمكنك أن تجزيء الجمل السردية الى أجزاء مثل نفعل دائما ونحن نكتب عن مجموعة او نص ما بسبب الامتداد السردي الذي يبدأ ويخيل إليك أحيانا انه لن ينتهي / ربما يفسر هذا على انه أفقية السرد ( بحسب تقسيمات باشلار لزمن الكتابة وجدواها / لكنه وهذا ما يحصل عند عبدالخالق كيطان إن القطع لايصح بسبب التشكيل المشهدي للنص ككل إذا جاز التعبير وهو ما يؤكد أخلاصه الكبير لتقنية السرد أهم واكبر أدواته في الكتابة .
هنا في البقعة النائية
أتعلم الجلادة كلَّ ليلة
تذوب الليالي واحدة تلو الأخرى
فيما قدماي تدمنان الارتجاف
عيني على السكارى
والأجساد التي ترمي بالشرر
لا أريد ما أتعلمه
لأنه ببساطة لا يناسبني
ساعات ثقال لا أملك فيها غير تأملات ليست ذات جدوى
ولأنها كذلك
فإنني أُكْثِرُ من الحنين
كان أبي قد تعلم رطانة ما أتعلمه الآن
حفظ الدرس جيداً
فأخرجوه شبه ميت من تحت السيارة
هكذا أمضى ثلاثين عاماً بعدها
يصمت طويلاً ولا يدخن
الانتظار في ماريون اليوم
لا يختلف عنه في شارع دجلة قبل خمسين عاماً
الوجوه هنا تختلف، وغرابة اللسان أيضاً ..
الانتظار ذاته
أجلس خلف المقود وأبتكر شكلاً للصبر
ومثل رجل دين طاعن أُكْثِرُ من الأدعية التي تجلب الرزق
في المقعد المجاور يجلس أبي
وفي المقاعد التي خلفي يجلس أصدقاء تناثروا
ليس من السهولة على عاقل أن يعيش هكذا
ربما من أجل هذا ابتكروا الشعر والموسيقى
أنظر في المرآة الوسطية فأرى الشعر ينأى
وفي المرآة الجانبية
أرى حشد كمنجات يحيط به..
السرد هنا أنتج رؤية وأنتج أفقا لمخيلة تجترح ثيماتها وتشكلها ببوتقة شعرية ، إذ لايمكن للسرد إنتاج عبارات شعرية إلا إذا اقترن برؤيا مغايرة وخطاب يعتمد الانزياح وينفعل بالعبارة / والجديد هنا أن الجملة الشعرية الطويلة عند عبد الخالق كيطان لم تكتف بنفسها انفعالا إنما الانفعال الشعري فيها يخص المشهد ككل / وهو ما ينفرد به الشاعر دون سواه من أقرانه ، والخطورة هنا تكمن في عدم اكتمال الهاجس الشعري في النص إذ يبقى مفتوحا وكأنه يشير الى جنس أدبي اخر .. بمعنى أن النص الذي يعتمد السرد بشكله الواسع يكون أكثر إيغالا واستفادة من اشتغالات أدبية أخرى / وهذا ما نعده مسألة غاية في الخطورة في نص لاشكل له بل انه غالبا ما يأخذ شكله من مضمونه / النص الذي تقدم لم يستخدم المفردة الشعرية على أساس انحيازها للدلالة وصولا الى متن تأويلي بل انه عمل على تكون المفردة هنا جزءا من خطاب يشير الى التقاطات وتداعيات متعددة تفرضها بنية المحتوى / الواقع المر / والذكرى كفنتازيا موغلة بالتشكل والتزايد وكأنه يصر على دوام المحنة كظلام ابدي يتوالد ويتناسل على الدوام / فضلا عن غياب التراكيب الذهنية والحسية كملمح من ملامح النص الجديد ، حيث يعمل السرد هنا على تغييب تلك التراكيب ويستبدلها بظاهرة تتمثل بالتشكل العام للنص كوحدة موضوع مترابطة وغير قابلة للتجزئة / وهو ما يتجسد بشكل أوسع في نصه الآخر ضمن مجموعته الانتظار في ماريون وعنوانه ( دع البلبل ينحب ) والنص محاكاة جميلة لنص اخر للشاعر العراقي رعد عبدالقادر / (( رفعوا رأس رعد على فوهة بندقية.. رفعوه عالياً . وفي تلك اللحظة من الصمت مر بلبله وسلواه.. حام البلبل كثيراً حول المشهد ولكنه كان ينحب هذه المرة.. البلبل ذاته الذي لقنه رعد الغناء وكان قد شرع فعلاً في نسخ مخطوطته عن أعاجيب المخلوقات!.. )) الشاعر عبدالخالق كيطان ينتج هنا سردا عاليا تتشابك عند نقاط بناءه آليات القص / آليات الحكاية بمجملها والتي يتيحها السرد لايشفع لها هنا إلا التشكل النهائي للنص والذي يجعل من الشاعر رائيا يستنبط احتمالات متعددة متقمصا مخيلة رعد عبدالقادر ذاته والمغايرة هنا انه بدلا من نص رعد الذي ترك البلبل متعجبا عمل عبدالخالق على رسم علامات تعجب كثيرة في النص على قصره مثلا وفي النص ذاته : وراء الملثمين يقف جواد سليم.. غرفة رعد مليئة بالمخطوطات الثمينة.. كان منزله يقع قبالة حي المنكوبين.. لم يكن من شاهد على القتل غير مدمن صمت )) علامات التعجب المتعددة كما أسلفنا والتي ينثرها الشاعر هنا بررت قصدية السرد كمفصل وحيد للبناء / فضلا عن رسم الموضوعة لا كمحاكاة فقط إنما هي رؤية مضافة الى رؤية رعد عبدالقادر في ذات الموضوع بدءا من العنوان وانتهاء بمتن النصين القصدية عند رعد عبدالقادر الذي ترك البلبل يتعجب عام 2002 وقف قبالتها عبدالخالق كيطان تاركا ذات البلبل منتحبا عام 2004 وهما رؤيتان تلخصان الراهن العراقي قبل وبعد الاحتلال ، وربما و من قبيل المصادفة أن يكون النصان قد اعتمدا السرد كتقنية للبناء ..
إن مجموعة الانتظار في ماريون حفلت بالعديد من النصوص ذات البنية السردية ، لكنها نصوص تتباين في مستوى سرديتها ذلك إن الموجه لطغيان السرد في معمار النص يدفعه ويحدده المحتوى على الرغم من علمنا بأنحياز وميل الشاعر الى المبنى الحكائي في النص/ وهي طريقة اشتغال عمل عليها عبدالخالق كيطان حتى في نصوص التفعيلة التي كان ينشرها في الثمانينات : في نصه ( كما يحدث في عطلة حزينة ) وهو نص مقطعات يقول في إحداها :
أرتني زندين بضّين للغاية
سألت: هل عشت حياتك؟
تلفتّ حولي
فإذا الرغبة تفرّ
وخيط من الدم الأسود يبتعني
السرد هنا / يستمد شعريته من مخيلة لا تتيح الاحتمال المعقول بل أنها تخلخل مفهوم الرغبة ذاتها لابسبب الحزن والضياع ، إنما بسبب واقع مر يسهب فيه عبدالخالق كيطان حد الوجع ، وهو بالمحصلة النهائية سرد مكثف يستند الى عنصر المباغتة إذا جاز لنا الوصف / مبنى حكائي يغلفه الشاعر بتوصيف موجع / فمن ذروة الرغبة ( زندين بضين للغاية / الى دم اسود كثيمة تلاحقه ) والمقطع أعلاه بمثابة جملة واحدة تبدأ بالمعقول وتنتهي بسواه ..، وتحفل هذه المقطعات بغنائية لايتيحها السرد أحيانا بسبب طول العبارة وقلة التكثيف وربما لهذا السبب وحده لجأ الشاعر الى المقطعات في أكثر من قصيدة في المجموعة ليتخلص من السرد الذي يثقل كاهل النص في بعض مساحاته ، لذلك جاءت اغلب المقطعات بسرد مغلف بغنائية تشكلت عنها عذوبة عالية تتضح جليا في نصوص من قبيل ( كما يحدث في عطلة حزينة / خماسية الصباح / قصائد الاخوانيات / مريم / صرعى النهر / احتفال متأخر بالفجيعة .. وغيرها ) فالسرد الشعري في هذه النصوص يعمل على تجسيد المفهوم الذي يحيلنا الى معنى السرد الذي يخص الشعر وحده دون جنس أدبي اخر / بمعنى أن السرد في هذه النصوص لايعني سردا حكائيا صرفا ، إنما يحيل الى مفهوم السرد / التتابعي والتناغمي في بناء الجملة الشعرية ، بقي أن أشير الى أن السرد كان عامل أساس في تقبل قصيدة النثر العربية المعاصرة لإجراءات بنائية مختلفة ربما يقف في مقدمتها تناول النص المذكور لمفتتحات واستهلالات لغوية تمكن منتج النص وتتيح له حرية اكبر في استخدام المفردة والتركيب اللغوي وتطويعهما لصالح النص ..