عبد الخالق الركابي لم ألجأ إلى التاريخ هرباً من الحاضر
أجرى الحوار
وارد بدر السالم
يمثل الروائي عبدالخالق الركابي صوتاً روائياً عراقياً متميزاً. أنتج عدداً من الروايات شكلت لوناً سردياً لا يشير إلا الى تجربته في استقدام التاريخ العراقي المعاصر واشتغاله برؤيا عميقة شفّت عن إمكانيات واضحة في توظيف عناصر التاريخ ومفرداته المختلفة.
أُختير ضمن خمسة روائيين عالميين من أجل كتابة التاريخ العربي الحديث على شكل رواية في إطار (جائزة قطر العالمية للرواية) وقد ترجمت روايته المخطوطة المعنونة (مقامات إسماعيل الذبيح) إلى اللغة الإنكليزية والإسبانية والفرنسية، ولم تصدر حتى الآن.
حولت بعض نتاجاته إلى مجالات السينما والتلفاز، منها (حائط البنادق) سهرة تلفزيونية، وفيلم (العاشق) عن روايته (مكابدات عبد الله العاشق) إخراج الفنان الفلسطيني محمد منير فنري، وفيلم (الفارس والجبل) عن قصته (الخيال) إخراج محمد شكري جميل.
÷ التحولات الكبيرة التي طرأت على الواقع العراقي سياسياً واجتماعياً ما بعد 2003 ما أثرها في تشكيل رؤية ثقافية جديدة؟ ما قوام هذه الرؤية؟ وهل أنتجت الثقافة العراقية بعد تسع سنوات من (التحرر الثقافي) ما يوازي هذا الانقلاب الجوهري في الحياة العراقية؟ وهل هناك ثقافة حقيقية ما بعد التاسع من نيسان يمكن أن تشكل ولو إطاراً أولياً لثقافة عراقية رصينة؟
} في ظل هيمنة العنف منذ التاسع من نيسان ـ من دون أن ننسى أثر الحروب السابقة وحصار السنوات الثلاث عشرة المشؤومة ـ لم يعد من اليسير تشخيص تلك (التحولات) التي هي في صيرورة دائمة تتغير كل يوم بل كل لحظة.
كان إطلاق الحريات في ظل الاحتلال ـ وهنا المفارقة! ـ أمراً يبعث، في أول الأمر، على بهجة الكثيرين؛ إذ لا أجمل من أن ترى نفسك فجأة وقد التحقت بركب العالم ـ في مجال الفضائيات والهواتف النقالة في الأقلّ !- بيد أن تلك الحرية سرعان ما أسفرت عن وجهها القبيح حين اقترنت بالفوضى؛ ومعها أصبح القتل أمراً شائعاً لا يدعو إلى الدهشة؛ فعلى أثر تفجير مرقد الإمامين في سامراء في شباط سنة 2006 بتنا ننام ونصحو على وقع العبوات الناسفة والسيارات المفخخة والتهديد بالخطف والابتزاز...الخ. ومما فاقم المأساة افتقاد الخدمات وكأننا نعيش في بلد دون حكومة: وإلا من يصدق أننا طوال هذه السنوات التسع نترقب كل سنة بيأس مقدم الصيف العراقي الذي تتخطى فيه درجة الحرارة الخمسين درجة مئوية من دون وجود كهرباء؟ والعجيب في هذا الأمر الوعود (الكاذبة) التي يطلقها مسؤولون في أعلى مراكز القرار محددين الصيف المقبل موعداً لتحسن الكهرباء.. ويحل الصيف (الموعود) وقد ازدادت الأمور سوءاً ومعها ضاعت مليارات الدولارات لتتحول إلى أوربا على شكل (فيللات) وأرصدة... والسؤال المحير الذي لا أكف عن طرحه على نفسي يتلخص بسر فساد هؤلاء المسؤولين برغم انتمائهم الى أحزاب دينية؟ أيعقل أن الفصام بلغ بهم مرحلة باتوا معها يتوهمون أن وساطتهم بالله سبحانه وتعالى أضحت مباشرة من دون الحاجة إلى الاستعانة بهذا الكائن التافه الذي اسمه (الإنسان)؟
من هنا أرى أنه من السابق لأوانه التحدث عن (رؤية ثقافية جديدة) لا سبيل لها من أن تتشكل الا في أجواء العدالة والأمان والسلم الأهلي.
÷ السؤال ينسحب على الرواية... ثمة مد روائي لافت للأنظار بعد 2003 أظنكم قد اطلعتم على نماذج كثيرة منه... ما سمة هذا المد الروائي حتى الآن؟ ما نقاط التقائه مع الرواية العراقية قبل هذا التاريخ وما هي نقاط افتراقه؟ هل هناك مؤشرات على أن الجيل الروائي الجديد قادر على أن يؤسس بؤرة روائية عراقية جديدة يوازي ما ينتجه أقرانهم العرب في هذا الميدان؟
} بدءاً أنا لست مع العموميات في مجال الفنون الإبداعية؛ ذلك لأن الرواية ـ موضوع هذا السؤال ـ جهد فردي قد ينجح الروائي فيه أو يفشل مقارنة بما هو متداول من نماذج عالمية، بمعنى أنه من غير المنطقي أن يبدأ الروائي في كتابة روايته مما هو محدد في جيله أو بلده أو أمته، ما الذي يمنعه من أن ينطلق من أفضل النماذج المتحققة على المستوى العالمي؟ تأسيساً على هذا الفهم يمكننا التحدث عن الرواية العراقية مؤكداً سلفاً فهمي المتواضع لفن الرواية الذي لا يفترض أن يتفق الآخرون معي عليه: وهو أن الرواية فن إبداعي له مواصفاته المعروفة التي قد لا تنطبق على عشرات النماذج المطبوعة على شكل كتب تحمل على أغلفتها كلمة (الرواية)، في حين هي قصص طويلة شئنا أم أبينا. وهكذا نستطيع أن نحدد النماذج الروائية العراقية التي لا يرتقي اليها الشك - دون ذكر الأسماء خوفاً من إغفال بعضها - متمثلة بجيل الرواد والستينيات وبعض الأسماء التي ظهرت في الأجيال اللاحقة بما في ذلك بعض الأسماء الشابة التي قدّمت نماذج روائية متميزة اشتهرت لا على نطاق العراق فحسب بل على النطاق العربي كله.
انطلاقاً من هذا التوصيف يستطيع الراصد أن يشخص بيسر ظهور نماذج روائية بقيت ـ إلا فيما ندر ـ أسيرة أوهام تمثلت بمحاولات ساذجة لاغتنام الفرصة السانحة: فما دامت أنظار (الفضائيات) كلها متجهة نحو العراق المحتلّ فما يضير هذا الروائي أو ذاك أن يتعامل في نصه مع هذه الحالة كفرصة مثالية لا لفضح الاحتلال وعملائه بدورهم القذر و(الممنهج) في تدمير كل ما يسعهم تدميره فوق الأرض وتحتها وبما في داخل النفوس، ما يضير هذا الروائي الانطلاق مما يجري لتحقيق مشروع (شخصي) سيلحقه بركب (العالمية)؟.. فما دام موضوع الساعة هو احتلال العراق فما الضير إذن من اتخاذه منطلقاً لرواية ملفقة في الوسع (إبهار) (الآخرين) بها بإضافة قليل من (ملح الهويات) أو )بهارات الكولونيالية) إليها؟
وهكذا بتنا نقرأ روايات تبعث على الغثيان لكونها تحيلك مباشرة إلى مصادرها العالمية المعروفة والذائعة الصيت: إذ يكفيك أن تقرأ الصفحة الأولى منها ليصطدم بصرك باسم الشاعر البرتغالي (بيسوا) الذي يحيلك من فوره إلى رواية سارماغو (سنة موت ريكاردو ريس) المكرسة من دون افتعال لصراع الهويات، وذلك من خلال استثمار فكرة القرين التي اشتهر بها (بيسوا) بعد ابتكاره لشخصياته الشعرية الثلاث المعروفة.... حسناً، كيف لروائي عراقي أن ينطلق من هذه الفكرة الغريبة ليكتب عن مجتمع تقليدي متمسك بأعرافه وتقاليده، لا يمنعه افتقاده لأيسر متطلبات العيش من أن يزحف بالملايين وبأقدام حافية إلى مراقد الأولياء الصالحين الذين هم موضع تقديسه واحترامه الدائمين.
÷ (مقامات إسماعيل الذبيح) روايتكم الفائزة بجائزة (قطر العالمية للرواية التاريخية).... أين تضعها في الترتيب الفني لرواياتك الأخرى؟ وهل كانت المرجعية التاريخية تشكل بناءها الفني كسابق رواياتك؟
} بقدر ما أسعدتني هذه الجائزة كانت في الوقت نفسه مبعث حزن لي.. ففي جانبها المادي كانت بالغة السخاء، تجاوزت بقيمتها الجوائز المرصودة للروايات العربية مجتمعة... كما لا تنس أن الفائزين معي كانوا أسماء عالمية مرموقة مثل الفرنسي (سينويه) والجزائري (واسيني الأعرج) فضلاً عن ثلاثة آخرين لا تحضرني اسماؤهم.
لقد بدأت فكرة هذه الجائزة العام 2005 كمشروع إبداعي تبناه (المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث) في قطر، موضوعها كتابة التاريخ العربي الحديث على شكل روائي، منذ اتفاقية (سايكس ـ بيكو) وحتى الآن. وتمّ ترشيح أسماء روائيين عرب وعالميين من ضمنها اسمي الذي كان للدكتور عبد الله إبراهيم الدور الحاسم في تسليط الضوء عليه. وتقدم كل مرشح بفكرة روايته التي يزمع كتابتها؛ فقدمت بدوري تلخيصاً ببضع صفحات لفكرة رواية كانت تشغلني آنذاك تنسجم مع مشروعي الروائي الذي جسّدته بأكثر من نص بدءاً بـ (من يفتح باب الطلسم) مروراً بـ(سابع أيام الخلق) وانتهاءً بـ(سفر السرمدية)، فكان أن حظيت الفكرة بقبول اللجنة الخاصة بالمجلس؛ فتم التعاقد معي لقاء مبلغ بالغ السخاء بشروط تنص على شراء المجلس المذكور لحقوق النشر واستثمار الرواية بكل الوسائل المعروفة على مدى عشرة أعوام من تاريخ الطبع، يحق لي بعدها ـ هذا إن بقيت على قيد الحياة!! ـ إعادة طبع الرواية على نفقتي الشخصية. وكان من شروط العقد ترجمة الرواية إلى اللغة الإنكليزية والفرنسية والإسبانية. وهكذا انهمكت على مدى عامين على تطوير فكرة تلك الرواية التي انتهيت منها عام 2007 بعنوان (مقامات إسماعيل الذبيح)، وهي رواية ضخمة أتتبع فيها سيرة إسماعيل على مدى قرن عاكساً من خلالها أبرز الأحداث السياسية طوال تلك الفترة المديدة. وكان أن نالت الرواية رضا اللجنة مجدداً، وتمت ترجمتها خلال فترة قياسية إلى اللغات الثلاث التي سبق لي ذكرها. وكان يفترض بها أن تطبع بتلك اللغات فضلاً عن اللغة العربية خلال العام 2010، وقد أعلنت ـ سواء أنا أم واسيني الأعرج ـ في أكثر من حوار عن هذا المشروع الطموح. بيد أن ذلك لم يحصل: فبعد تحويل المجلس الوطني إلى وزارة الثقافة في قطر مرت سنتان دون أن تظهر أية رواية من تلك الروايات الفائزة، وكان هذا الأمر مبعث إحراج لي؛ ذلك لأنه بات من المألوف أن أُسأل عن سر عدم ظهور الرواية التي سبق لي الإعلان عنها وبعد مرور كل هذه الأعوام؟ ما آمله من وزارة الثقافة الموقرة في دولة قطر أن تكمل ما بدأه المجلس الوطني ـ الذي غمرنا بكرمه وسخائه ـ بطبع الرواية، أو السماح لنا بطبعها على نفقتنا الشخصية لإيصال تلك الروايات إلى المتلقين.
÷ (دليل القارئ إلى سابع أيام الخلق) حوار مطول أجري معك عن روايتك (سابع أيام الخلق) قبل سنوات... وبعد تلك الرحلة الطويلة مع العالم الروائي ما هو دليل القارئ إلى روايتك (سفر السرمدية) وبالتالي ينسحب السؤال على مجمل رواياتك: (نافذة بسعة الحلم) و(من يفتح باب الطلسم) و(مكابدات عبد الله العاشق) و(الراووق) و(قبل أن يحلق الباشق) و(أطراس الكلام)... بمعنى ترتيب رؤيا لأعمالك الروائية كناظم فني تلتقي فيه مجمل رواياتك أو تفترق عنه أيضاً... فلكل رواية ظرفها الخاص وتاريخها الشخصي.
} كان الحوار المطول الذي أجريته معي تحت هذا العنوان والذي نشر ضمن الملف الخاص برواية (سابع أيام الخلق) في مجلة الأقلام العدد 1 - 4 سنة 1997 أهم وأطول حوار أجري معي حتى الآن؛ ذلك لأنك بحكم كونك كاتب قصة آنذاك وروائياً لاحقاً عرفت كيف تشخص المواضع التي تتطلب الإضاءة والتوضيح في رواية لا أستطيع أن أغالط نفسي بأن أزعم بأن قراءتها يسيرة؛ ذلك لأن انطواءها على أكثر من مستوى داخل المتن الحكائي، وتنقلها بين السرد الشفاهي والكتابي، واستثمار المصطلح الصوفي والفلسفي، كل هذه الأمور جعلت الرواية على شيء من صعوبة قد يحبها عدد من المتلقين بقدر ما لا ينسجم معها عدد آخر، انطلاقاً من ذلك الحوار أستطيع الآن وعلى عجالة أن أتأمل تجربتي الروائية على مدى فترة قاربت الأربعين عاماً لأخرج منها بنتيجة مفادها أن روايتي الأولى (نافذة بسعة الحلم) والثانية (من يفتح باب الطلسم؟) ستظلان خير نموذجين للهم الروائي الذي بقي يشغلني طوال تلك الفترة: فالرواية الأولى )نافذة بسعة الحلم) تمثل لدي على أفضل وجه ما عرفت بـ (الكثافة الزمنية) : فأحداث الرواية تمتد على مدى نهار واحد تحت ثلاثة عناوين هي (الصباح) و(الظهيرة) و(المساء)، بيد أن هذا النهار ما هو في واقع الحال سوى (معادل موضوعي) لعمر الشخص الرئيس للرواية؛ أي أن (الصباح) يقترن بطفولته، و(الظهيرة) بشبابه، و(المساء) بمأساته بفقده ساقيه أثناء إسهامه في حرب تشرين. وعلى النقيض من تلك الرواية جاءت روايتي اللاحقة (من يفتح باب الطلسم) فضفاضة ذات أسلوب ملحمي، أتتبع فيها مجتمعاً كاملاً في تحولاته أواخر القرن التاسع عشر. وعلى هذا المنوال توزعت رواياتي اللاحقة: بين الكثافة الزمنية والنزوع الملحمي؛ كما كان شأن الرواية الثالثة (مكابدات عبد الله العاشق) التي تجري فيها أحداث فترة زمنية تتخطى نصف قرن على خلفية بضع ساعات من يوم تجرى فيه طقوس الاستعداد لدفن بطل الرواية الذي نراه وقد قتل منذ السطور الأولى منها. وكما هو متوقع جنحت روايتي الرابعة (الراووق( إلى الجانب الملحمي، لتلحقها روايتي الخامسة (قبل أن يحلق الباشق) على المنوال نفسه الذي توج بأهم رواياتي (سابع أيام الخلق) قبل أن أعود في الرواية اللاحقة (أطراس الكلام) إلى الكثافة الزمنية؛ إذ إن الأحداث تمتد على مدى رحلة بالسيارة من بغداد ومدينة متخيلة تقع على الحدود الإيرانية أستعيد خلالها حياة الشخص الرئيس. وتكرر الأمر بشكل مغاير في رواية (سفر السرمدية) التي تتمحور فكرتها حول كيفية كتابة نص روائي مشترك من قبل روائيين اثنين يتناوبان في كتابة فصولها.
÷ التاريخ العراقي المعاصر، التراث العربي بتجلياته المختلفة، المخطوطات القديمة، ثيمات متكررة في رواياتك... هل بالضرورة أن يبقى التاريخ جداراً لرواياتك؟ ما الذي خرجت منه بعد هذه التجربة الطويلة مع الرواية؟
} لا أكتمك صديقي أنني منذ بداياتي المبكرة أخذت بخصوصية بعض التجارب العالمية في مجال الرواية مثل ايفو اندريتش وروايته الجميلة (جسر على نهر درينا) وكازانتزاكي برواياته المعروفة، ولامبيدوزا بروايته المذهلة (الفهد)، وجان جييونو بروايته (ليبق فرحي دائماً)، وروايات جنكيز ايتماتوف.... ولاحقاً روايات أميركا اللاتينية التي اشتهرت بالواقعية السحرية وذروتها رواية ماركيز (مئة عام من العزلة) من دون أن أنسى قصص بورخس القصيرة وروايات اسماعيل كادريه وروايات كونديرا... الخ هذه الروايات تنطوي على خصوصية منحتها جماليتها التي تفردت بها عن الرواية العالمية، فبات همي استثمار ما في تراثنا العربي بتجلياته في حقل التصوف أو الفلسفة الإسلامية وبما اشتهر به من مخطوطات توارثتها الأجيال، بمعنى أنني لم ألجأ إلى التاريخ هرباً من الحاضر، بل كان الحاضر نفسه منطلقي نحو ذلك التاريخ: أحاوره وأجادله وأطرح عليه أسئلتي الشخصية التي أطمح أن تكون أسئلة جيلي... والآن ـ وأنا منهمك منذ عامين بكتابة رواية عما يحدث بعد الاحتلال ـ لم أكتف بما حدث عقب التاسع من نيسان سنة 2003 بل عدت أنبش عميقاً بحثاً عن جذور ما حصل لاحقاً متتبعاً حملات التبشير وبعثات منقبي الآثار والباحثين الأنثربولوجيين... الخ هؤلاء الذين كانوا يتوافدون على مدننا وأريافنا وبوادينا كأطباء أو سياح ليسفروا ـ بعد الحرب العظمى ـ عن حقيقة المهمات التي كلفوا بها... تلك هي المسألة إذن استمرار النبش والبحث والتنقيب في طبقات الماضي لأجل الحاضر والمستقبل.
÷ أدب الحرب من روايات وقصص وقصائد، مصطلح نقدي عالمي وجد صداه في الأدب العراقي منذ ثمانينيات الحرب في القرن الماضي وحتى الآن. ثمة وجهات نظر مختلفة في هذا الموضوع أبرزها من (واجه) هذا التصنيف بوصفه أدباً مرحلياً، غير أن الواضح الآن أنه يعود بقوة في الرواية العراقية من مختلف رؤاها أو أهدافها بعد الاحتلال الأميركي للعراق وما تركه من متغيرات جوهرية في البنية السياسية والاجتماعية والأخلاقية في الجسد العراقي بشكل عام... ما الذي حصل؟ لم هذه العودة السريعة لأدب واجه ضغوطاً نقدية كبيرة وتهميشاً لا يخفى عليك؟
} عودة أدب الحرب بقوة إلى الرواية العراقية بعد الاحتلال الأميركي لها أسبابها: منها انتهاء دور الرقيب والتوجه الإعلامي الذي كان يؤثر أحياناً في تحديد المسار المطلوب. ويبقى أبرز الأسباب لهذه العودة يتمثل بما سبق أن تطرقت إليه فيما سلف خلال هذا الحوار: تصور البعض أن هذا الأدب ـ أعني الاحتلال وما نتجت عنه من تداعيات - يتميز بصبغة (عالمية) سيساعد الروائي على اختراق الحدود المحلية انطلاقاً من أن العراق بات بؤرة الاهتمام الإعلامي على امتداد العالم كله، أي أن هؤلاء الكتاب يجيرون عذابات الناس ومآسيهم لمصالح شخصية محدودة لا تتخطى تسليط الأضواء على أسمائهم. انطلاقاً من هذه المقدمة لو عدنا إلى أدب الحرب العراقية الإيرانية لرأينا أن الإعلام المسيس بقدر ما ساعد على الترويج لذلك الأدب وانتشاره حدد من تأثيره في الوقت نفسه إن لم يكن قد ألغاه؛ ذلك لأن الجميع أخذوا ينظرون إلى هذا الأدب نظرة شك كان لها ما يبررها حينما روج ذلك الإعلام بشكل غير بريء لأسماء أدباء كانوا يشغلون مراكز متنفذة في الجهات الحاكمة آنذاك. بيد أن ذلك لا يمنعنا ـ وبرغم غلبة النصوص الرديئة على الجيدة ـ من أن نفرد نصوصاً بالغة الأهمية كتبها أصحابها ـ بمعزل عن منطق النظام الذي يتطلب الترويج له والنفخ في بطولات كاذبة ـ إيماناً منهم بأن تلك الحرب حقيقة واقعة كادت تجهز على الإنسان العراقي بطموحاته وأحلامه المجهضة وحياته المحفوفة بالمخاطر. وسيبقى الكثير من تلك النصوص نماذج متفردة سيعود إليها المتلقون بعد انحسار موجة الفوضى التي نعيشها الآن وبعد تجاوز هذا التعميم الذي تبناه العديدون فيما كتبوا عن ذلك الأدب محملين أدباء الداخل وصمة الانتماء جماعياً إلى النظام من دون أن تهتز ضمائرهم وهم يعيشون في أوروبا في أمن وسلام متناسين أن هؤلاء (البشر) كانوا مثلهم يحرصون على حياتهم وحياة أسرهم وأطفالهم مدركين أن الصواريخ الإيرانية في انصبابها على بغداد والمدن العراقية الأخرى ـ تماماً مثل الصواريخ العراقية المنصبة على المدن الإيرانية - لم تكن تفرق بين من يوالي النظام أو يقف ضده.
وكشاهد على ما سلف أذكّر من لم يقرأ روايتي (أطراس الكلام) في طبعتها الأولى الصادرة سنة 2001 أنني كتبتها بما يشبه القسر أسوة بزملائي الروائيين الآخرين الذين اجتمع بهم رئيس الجمهورية شخصياً ليطلب منهم ـ والكل يدرك مغزى طلب على هذه الشاكلة يصدر عن أعلى سلطة في البلاد، وفي تلك الظروف الدقيقة التي كانت الولايات المتحدة تهيئ الرأي العام العالمي لتسويغ غزوها المقبل للعراق ـ أن يكتب كل واحد منهم رواية عما يجري؛ فكتبت روايتي تلك كمن هو مقدم على الانتحار. وكان د. شجاع العاني ـ والرجل حي يرزق يستطيع أن يكذّبني في ما أقول - أول من تنبه إلى خطورة فكرة الرواية فهنّأني على سلامتي حين التقينا في (مربد) تلك السنة، وقال بالحرف الواحد: (يخيّل إليّ أنك نجوت من موت محقق بسبب أطراس الكلام)، كما أن الأستاذ مؤيد البصام أشار إلى ذلك في مقالة له منشورة...
÷ ثمة من يرى أن الرواية هي مشروع المستقبل في الثقافة العالمية وبإمكانها أن تحل محل العلوم الإنسانية بوصفها نصاً معرفياً خرج من سياقاته المتعارف عليها ونحا منحى جمالياً التصق بالفنون والعلوم كلها إلى حد كبير... هل يمكن أن نتصور أن الرواية قادرة على أن تكون بهذا الوصف؟
} من المؤكد أن الرواية ستبقى مشروعاً مفتوحاً على المستقبل من دون أن يعني ذلك أن تحلّ محل العلوم الإنسانية: إنما هي بقدرتها العجيبة على الإستيعاب والتطور ستبقى تمثل ذروة الفنون الإبداعية: تفاجئ المتلقين من حين لآخر بنصوص تبدد أوهام ما يشاع من حين لآخر عن احتضار الرواية وموتها. ستبقى الرواية فناً مفتوحاً غير قابل للضمور لسبب جوهري أنها لم تكن وليدة نظرية صارمة تقيدها ضمن حدودها الضيقة، بل انها انطلقت من (أمزجة) كتابها الكبار الذين عرفوا كيف يفاجئون المتلقين بنصوص خرجت عن المألوف، حتى إذا ما مرت أعوام وغلب طابع المألوف تلك النصوص ظهرت نصوص جديدة تضخ دماء الحيوية في هذا الفن الإبداعي العجيب.
جريدة السّفير
03/08/2012 العدد: 12249
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟