كعادتي شبه اليومية ..وعلى مشارف غابتي المؤّلفة من الوزّال والصنوبر والكينا والسنديان والبلوط، تلتفّ حانية خاصرتها لتحتضن برفق ضيعتنا الصغيرة القابعة على ربوة بعضهم يُُطلق عليها جوازا الجبل ..
البحيرة الصغيرة على مرمى نظري ونهرها الصغير ينساب مجهدا ليملأ جوفها، محافظا ما استطاع على قرب حوافها من المنتزهات والمقاهي والجلسات الشعبية التي أقيمت حولها حيث أن أشهر الصيف كانت الأكثر إرهاقا لذاك الجدول المنساب كمسار أفعى في رمال الصحراء..
كانت عيناي ترمقان السماء بنصف إطباقة وأسير بشرود حدّ اللاشعور بما حولي من الكائنات ..
نورسة متهالك طيرانها تتجه صوبي مباشرة ..يا للدهشة!
تكاد تصطدم بصدري ولم أؤدِ أي حراك سوى أنني فتحت كفيّ كمن يبتهل للسماء بخشوع ولهفة
حطت على كفي الشمال رغم طبقات الريش والزغب السميكة التي تلبسها بإتقان شديد وكأنها مخمّد صدمات لسماكتها ، لكنّني كنت أشعر بنبضها السريع على راحة يدي اليمنى بينما أحاول تهدئتها ..
كانت تتذمرّ من أمرٍ ما !
تشكو بلهفة ، تتألم ..
مسحتُ على ريش رأسها الناعم الأبيض بمحبّة كبيرة ..
فتحت منقارها كان شيئا هناك في حلقها، تظهر حافته ..
أحاول برفق انتزاع ذاك الشيء الذي يؤلمها
في البعيد كان رجلاً يركض نحوي مايزال بعيدا نسبيا ما بين مئة إلى مئتي مترا .. يحاول أن يشير بيده لكنني لا أفهم ما يريد أن يفهمني إياه ..
وكأنه غاضبٌ أو يريد عراكي لأمر لا أتوقعه حتى ..
حيث أنني نادرا ما كنت أكلّم أو يكلمني أحد لأكثر من تحية صامتة غالبا ما تكون برفع كفي قليلا ودون النظر لمن مررت به
كان الرجل يقترب أكثر،
شيء ما بيده يشبه العصى الطويلة ..
يلوح بها عاليا وهو يركض .. بدأت أسمع كلماته الغاضبة والمتوّعدة ، لا تفلتها ، لا تطلقها ، لا تدعها تذهب ، هـ ـ ـ ـ ـهاتـ ـ ـ ـ ها ..
لم أعره أيّ انتباه حتى أنني لم أنظر إليه جيدا ولا لما يحمل بيده ولا أصغي حتى لكلماته كنت أنتبه لكلمة من بين العشرة كلمات .
برفق شديد فتحت منقارها الأنيق مددتُ أطراف أصابعي لأسحبه وبأصابع اليد الأخرى أحاول مداعبة جلد عنقها بهدوء وحذر شديدين حتى بدأ يخرج ذاك الشيء ..
مسكت طرفه وبدأت أسحبه ..
كان الراكض قد وصل بقربي انحنى واضعا يديه على ركبتيه مصدرا حشرجات متلاحقة يخرج من بينها بعض مقاطع من كلمات
بالكاد استجمعتها ، وأنا أتابع سحب ذاك الشيء العالق بعنق النورسة ..
كل ماكان يريد قوله أنّ الشيء الموجود في فمها يخصّهُ هو .. طلب مني أن أذبحها لاستخراج ذاك الشيء وهو يقول انتبه أن يبتلّ بدمائها ..
وكأنه يتهمني أيضا أو يشير بشكل ما أنني من أرسلها لتبتلع ذاك الشيء وتأتيني به .
مطلقا لم تتغير وضعية شفتيّ عن ابتسامتي الهادئة ..
ولم يكفّ تركيزي عن متابعة حركاتي اللطيفة مع ذاك الطائر الجميل وأخيرا خرج الشيء المؤذي من عنق النورسة يا إلهي ..
ورقة نقدية من فئة الألف .. ملفوفة كسيجارة وحين ابتلعتها بدأت تتفلفش كادت تختنق تلك المسكينة ..يبدو أن حوافها خرشّت عنقها من الداخل .. بمداعبة شديدة الرفق وحركات هادئة بأناملي شعرت أن النورسة بدأت ترتاح ..
نهض المجني عليه واقفا وهو يقول : هل رأيت ؟
مادّا يده لي ليأخذ لفافة الورقة النقدية .. أعطيتها له ..التفت للسماء وهو يقول الحمد لله ( المال الحلال يعود ..لأهله ) وحينها فقط تفرست بملامحه وقوامه كان قصيرا ونحيلا بشكل لافت ، شعره متلبّد وطويل ويبدو أنه لم يستحمّ أو يبدل ملابسه منذ أيام ..
وجهه كان أسمرا بل أقرب للسواد من السمار .. عيناه لا لون محدد لهما، بعض بقع داكنة أكثر من باقي بشرته على وجهه ، وعلى خدّه اليمين ندبة لجرح قديم على شكل قوس .
وضع المال بجيبه ومازال مادّا يده صوبي .. وهو يقول: هاتها .. هاتها حبا بالله هاتها أريد أن أقتلها أذبحها لقد أتعبتني كنت أتجول وأبيع السجائر والمشروبات للأولاد قرب البحيرة ..ولففت هذه الألف ليرة لأضعها خلف أذني لكي لا يراها صاحب (الكشك) الذي أعمل به .. فهو يسلمني البضاعة صباحا ويستلم مني النقود في نهاية كل يوم يقلب جيوبي ويفتشني لئلاّ أكون قد خبأت شيئا من (الغلّة ) ..
مازالت ابتسامتي كما هي والنورسة في حضني تستريح على راحة كفي بهدوء ..
لم أنبس بأي كلمة والرجل يقف قربي .. أشرت له بظاهر كفي أن ارحل ..
فنظر مليا في وجهي ومن ثم خفض بصره للأسفل واستدار كليا ومشى ..
ولكن طريق عودته كان هادئا وئيدا ليس كمجيئه ..
ومازال يبتعد عني وهو ينظر للأرض ..وأنا أهدهد النورسة ويدور في رأسي شرح مفصل لما حدث فهي لا بدّ أنها جائت من بلاد بعيدة حيث يشتري المتنزهون الطعام الخاص بالطيور لإطعامها وهي معتادة على ذلك ، يا للمسكينة حسبت أن ذاك الرجل يطعمها حين رفع اللفافة عاليا ولسوء حظها كانت بالقرب فابتلعتها ..
لم أستغرب قط ، أن لغة ما تولّدت في رأسي كأنني على تفاهم تام أنا وتلك النورسة البيضاء وكأنّ كل واحد حكى للآخر ما يدور في ذهنه أحسست أنها تبتسم ..
كان لدي بعض الماء والعصير فتحت علبة العصير وملأت تجويف سدادتها وقربتّه من منقارها .. لكنها لم تشرب بل حركت رأسها ذات اليمين والشمال لعدّة مرات ..
ذات الشيء فعلت مع الماء .. لكنها شربت هذا المرّة ..جلستُ بالقرب من شجرة وزّال ، استلقيت على الأرض وهي ما تزال تلاصق صدري ..
وضعت قبعتي على وجهي لأتقي أشعة شمس الأصيل علّني أغفو لبعض الوقت، ابتسامتي اتسعت قليلا لتشبه الضحكة التي تسبق القهقهة .
\
كريم
التوقيع
أنا شاعرٌ .. أمارس الشعر سلوكا وما أعجز .. أترجمه أحرفا وكلمات لا للتطرف ...حتى في عدم التطرف
ما أحبّ أن نحبّ .. وما أكره أن نكره
كريم سمعون