*عذرا ولكني أتحدث اليك من مستشفى الأمراض العصبية ..
*بالأمس أصابت السيد (م) حالة اكتئاب شديدة ولم نستطع تقديم عون له ..
وأصر على الاتصال بك وإعلامك بضرورة رؤيته بسرعة..!!
احترت هل استطيع حقا زيارته ..؟ لماذا أنا من طلب رؤيته لا غيري ؟ .. اسئلة متزاحمة راودتني وأنا أنطلق الى المستشفى ..
عندما بلغت المدخل رأيت شبح امرأة يلوح من شق الباب .. أخذت بيدي
وانطلقت بي الى الردهة حيث كان يجلس في هدوء .. لم أكد أخطو بضع
خطوات حتى شعرت أن هناك من يلاحقني ، نظرات حائرة تخترق ظهري واستقرت في تساؤل عنيف في صدري ، ثقل في الجو ، وشعور بالاختناق .. جلست قبالته وانتظرت ، كانت رأسه مطأطأة وكأنه يفكر
في مهمة صعبة الانجاز ، وبعد هنيهة رفع رأسه اليّ وقال : شكرا ..
ثم صمت قليلا وعاد يطلب مني لفافة تبغ ، ولاني حديثة عهد بالدخول
الى المصحات العقلية أعطيته السيجارة والكبريت .. أشعلها ونفث
الدخان عاليا ثم قال : انهم لا يسمحون لنا بالتدخين ، وأردف ..
تتساءلين لماذا أنت هنا ؟ وبارتباك ظاهر قلت نعم .. عاد ليقول :
* طلبتك كي تشهدي معي كيف سأحرر هؤلاء العبيد ليعيدوا بناء العالم ..!
ولا أخفي سرا إن قلت أني كنت أرتعب في أعماقي ولمت نفسي كثيرا ..
وفي محاولة يائسة للتغلب على خوفي سألت:
-لماذا أنا هنا ؟
فجأة تغيرت ملامح وجهه هدأت واستكانت ثم قال :
*لاني أشعر أنك أمي .. أمي الصغيرة ، منذ رأيتك شعرت بأنك أمي
التي غادرت هذا العالم وتركتني تعبث بي الاقدار .. يقولون أني مجنون
حتى زوجتي وأولادي ينفرون من رؤيتي .. لكني أحبهم ..
بالأمس أودعتني زوجتي هذا المصح دون أن تسألني رأيي ، أودعتني
هنا لانها تظنني مجنونا .. اخبريني هل أنا مجنون حقا..!
سأصدقك لانك أمي .. تصوري لقد منعوا عني كل شيء .. أخذوا
الاوراق والاقلام لكنهم لم يقدروا على انتزاع الافكار من عقلي ..!!
قالوا أني مجنون ألبسوني هذه الثياب المخططة أسوة بمن معي في
هذه الردهة .. أنظري الى ذلك الشاب كيف يجلس معلقا نظراته في السقف
إنه يبحث عن حبيبته التي صعدت ذات مرة الى السطح ولم تعد ..!
إنه ينتظرها منذ سنتين .. وذلك الشيخ وعده ابنه بالمجيء منذ أدخله هنا
قبل خمس سنوات لكنه لم يأت أبدا .. وذاك الرجل جنب الباب أعيته
الحيلة في أن يعيل زوجته وأولاده في زمن بلا نبل ولا أمانة .. أودعوه
هنا لانه رفض السرقة وإعالتهم .. هذا وذاك ، أنا وغيري .. تقول
زوجتي أني مجنون .. أني أتوهم أن بامكاني إصلاح الكون ..
أن نيتشه مجنون .. وأفلاطون منافق كذاب ، وبسمارك رجل حرب
وقتل ، وأنها تكرههم جميعا وأنا اكرهها..!
فجأة قفز فوق السرير وبدأ يصرخ : عذرا أيها العقلاء هلموا بنا نفتح
بوابة التاريخ ، ندخل لنحرر العبيد أولئك الذين يرزحون تحت وطأة
الظلم والفقر والحاجة .. هلموا فقد حلت ساعة الانعتاق والحرية..!!
في لحظة واحدة تخلى كل من في الردهة عن عالمه وهاج الصراخ وماج ..
تأثرت أعصابي بسبب هذا الصراخ .. إن هذا التصعيد يرهق روحي
التي كانت مأخوذة بما سببه الذعر ولكن ! مشهد الاخرين أفزعني وأحزنني ..
لم أر في حياتي ثلة من الناس أصابهم الرعب على هذه الصورة ..!