سد خلفه باب مكتبه. في وقت سابق لأوان دخوله كل ليلة . دخل يحمل رأساً شاكاً بمشاهدات ساخنة لنهار اليوم . التقط قلمه قبل أن يصل محل جلوسه . هذه الليلة تنتظره مهام مضنية . وعسى الاّ يخذله ذهنه كعادته. فقد شرد عنه قبل بضعة أيام . وحلّت قطيعة بين الورقة والقلم. تفاءل كثيراً لحد انه قرر أن تكون الليلة هي الأخيرة لوضع خاتمة لمؤلفه الأخير الذي خط حروفه الأولى منذ مدة ليست بالقصيرة.
أغمض عينيه ليحتضن نثيث جمجمته. أوراقه فتحت عيونها ترقب انطلاقة قلمه المعلق بأنامله الذابلة المتلعثمة. طالت رقدة قلمه بلا بارقة أمل .
الرجل انحنى صاغراً لاحتلال رأسه بأفكار مشوشة . استمع لها بما يكفي حتى تضاءلت عقلانيته وصار كحبة رمل . لقنته وساوسه بأن تلك التلال من الكلمات والجمل المحمولة على أجنحة الورق ، والتي تغص بها خزانات مكتبته. ، قد فشلت في كف القبائح التي هرول إليها كثيرون بلا حدود.. فارتأى من لا بد التغيير الاّ باليد واللسان فقط. تلك الضغوط وضعت الرجل في مربع اللاعودة نحو المعقول . تخاذل كثيراً . فأنهار حتى آل أمره إلى نتيجة فادحة الثمن.
عمّر رأسه بقبعة ناصعة القذارة . علق بأصابعه عصا لم تنقصها المتانة . تسمّر لحظات أمام مرآته المرشوشة بالنمش. ﺇن من شيء يعوز هندامه الوضيع؟
هب هاتفاً بنبرة مخبولة ( لبيك يا جنون) . فاتحا شهيته بزجاج المرآة وزجاج خزانة كتبه . مزق ما يسد شهيته من الكتب. كسر أقلامه . استحال محيطه إلى نثار من الورق الممزق وشظايا الزجاج وبقايا من معالم لوحات فنية جميلة. لم يبق من هذه الأصنام التي تراءت له الاّ وإطالتها عصاه .
التفت بعين حمراء كبعير هائج . لثمان عيون طالعته مرعوبة تجاسروا على فتح نصف باب مكتبه المقابل لغرفة ينامون فيها لصق أمهم التي شرب السهر نومها مذ فارقت فراش زوجيتها كرهاً . حينما استبدل زوجها رأسه برأس آخر يعتليه الخراب.
كلمته زوجته بصوت لا يخلو من غيض . عن مبرر فعلته هذه . سكتت تنصت إليه بحواس مفغورة . وهو ممسكاً بكتاب أحد المشاهير . يكيل إليه الاتهامات . ( أيها الصامت.. أنت أيتها الحنجرة المنخورة .. يا حقل ماحل خذل زرّاعه. لن نكتب بعد اليوم . بل نفعــل...)
استمر يتقافز فوق الأشلاء . غير مبال لجروح أطرافه بنثار الزجاج . ولا خائفاً من صراخ حروف تلك المعارف التي نال من كبرياءها.
هذر كثيراً وهي تنتظر سكوته دون جدوى . تسربت لدواخلها أفكار مخيفة . اضطرتها لتدنو منه بأقدام ذابلة . ترتعش أذيالها بأصابع أبناءها . توسمت فيه رجولته . شكت حالهم في غيابه . قدمت له ما يكفي من التوسلات والدموع. نصحته بالكف عن سعيه هذا . بلا رجاء طال ركوعها تحت قدميه . لكنه تدخل جاء بعد فوات الأوان..
هجر الرجل بيته . وهامت أقدامه بفضول طاغ متسلحاً بنظرات مجنونة يلمح باستهزاء واجهات البيوت . يتابع إلى فوق ذيول دخان المصانع . يرمي أقدامه بين المارة بلا ترتيب. يستخدم عصاه لإغراض متعددة . قبعته لا تتزحزح حتى بضربة سيف. ينثر ذنوب الناس على قارعة الطريق عسى أن تتفرسها يد الفضيلة . يقذف موازين عرجاء بحجر حكمة المجانين . مر بمحطات ( عاقلة) عديدة . كثير من الذين أنصتوا إليه . حكموا على عقلانيتهم بأحكام مهينة.
عزيزي القارئ .
التقيـك في محطة الجنون الأولى...........
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 02-13-2012 في 11:20 PM.