(آدم)
طلعت شمس الصباح معلنة حلول يوم جديد وأشرقت عاليا،فاغتاضت السنديانة من ذلك المنظر الجميل وتمنت لو عانقتها لتزيد اللوحة جمالا وبهاء وظلت عالية رافضة عالم الحضيض.
هنا في ركن من أركان الحياة،قلب أراد الحياة وأبى إلاّ أن يكشف أسرارها ويرفع حجاب الضبابية عنها.قلب اختاره الوجود،فباع مفتاح الآما ن و السكون ليشتري عالما يجهل مكنونه.صرخة مجهولة مزّقت ستائر الصمت وأوقفت الأوجاع والآلام. صرخة لسنا ندري سببها هل هو حب في الحياة؟أم خوف من المصير المجهول؟وزغردت النساء بعرس الحياة وهللت لميلاد آدم الذي حكم عليه الدّهر أن يكون سببا في موت أغلى من يملك في هذه الدنيا ........أمه والتي ظلّت تنتظر وجوده بفارغ الصبر وقد عدّت الآيام والشّهور،ولكن الفرحة لم تكتمل ،فقد شاءت الأقدارأن تبيع حياتها ثمنا لسعادتهاأجل السعادة المنحصرة في ميلاد آدم .هي ذي الحياة يموت البعض ويحيا أخرون,وتستمر الحياة بحلوها ومرّها,بأفراحها وأحزانها بربيعها وخريفها بشتائها وصيفها.ماتت الأم وعاش الوليد,يكابد الأهوال و الأعاصير يعيش بين الحلم و اليقظة.
مرّت الأيام وتبعتها الشّهوروبعدها السنين وآدم وحيد،الآمه إبرغرست في جسده الضعيف وأبت إلاّ أن ترسم آثارها على وجهه ونحالة جسمه.
خرج آدم إلى الشارع باحثا عن لقمة العيش وكان الشارع أحنّ عليه من خمّ الدّجاج الذي يسكنه وهوووالده المسّن.
طرق آدم كل الأبواب واستجدى الطيّب واللئيم,وصدّ عدة مرات بلا رحمة أو شفقة.
آدم شاب حسّاس كم من مرة حلم بأمه التي لم يرها قط.وكم مرة تمنى لو رحل معها رحلتها الأبدية.
وفي يوم من الأيام خرج آدم كعادته خلف لقمة عيشه,التقى في طريقه بجماعة من الشّباب التفوا حول طاولة النرد وهم بين صحوة وغفوة وقد فعل المشروب فعلته,ناداه أحدهم مازحا :تعالى الى هنا يا ابن أمك وهو يضحك بأعلى صوته,لم يتمالك آدم نفسه ونقطة ضعفه كلمة (الأم)فاتجه نحو الشاب والغضب أفقده صوابه فحمل قنينة الخمر من على الطاولة وكسرها وضرب بها الشاب فأرداه قتيلا.
وقف آدم غائبا عن الوعي والشّاب غارقا في دمائه وما هي إلاّ ساعة زمن حتى حضرت الشرطة وألقي القبض على آدم وهو لا يزال بين مصدّق ومكذّب لما حدث في هذا الظرف القصير.
وهكذا أدخل آدم السجن،فوجد نفسه بين المجرمين،فتارة يبكي حظه التعس وأخرى يواسي نفسه وقد وجد مكانا يأويه ويقيه حرّ الصّيف وبرد الشتاء.
ومن ظلمة الحياة إلى ظلمة أقسى وأمرهي ظلمة السجن ،فقد وجد آدم نفسه خلف القضبان يتجرع مآسي ماضيه وهموم حاضره وهو قابع في زاوية من زوايا حجرة باردة تآكلت جدرانها وترك عليها الزّمن رسوماته التي باتت كتابا مفتوحا وسجلا خالدا يشهد رحلة السجناء عبر هذا النفق المظلم .فهذا رسم صورة وآخر خطّ أيامه وشهوره ولما لا سنواته وآخر كتب أحبك وآخر .......واللوحة الجدارية طويلة تحمل هموما أكبر وأعمق.وآدم لا يزال هنا يقاسم الحجرة أوجاعها وكأنّه يقول لها هونا عليك فكم حضنت من الأوجاع والآهات في صمت وكم سقيت أرضك دموعا .ثم يعود إلى واقعه حيث الألم تربع واستقربين جدران قلبه الرقيق الفتّي وهو يبحث عن بقعة فارغة عذراء يلجأ إليها ليهرب عن هذا العالم الغائبة شمسه،الخريفية أشجاره،وهناك همس في أذنه صوت رقيق استكان إليه وفأطال الإسغاء.كان صوت أمه من العالم الآخر:«بني يا فلذة كبدي ،يا حلمي الذي لم أره،إنّ القدر أقوى منأي ومنك كم تمنيت لو قلت لك كم أحبك أحبك أحبك..............ويختفي الصوت وتختفي معه الإبتسامة ويعود إلى وحدته والتفكير في مصيبته وكيف الخروج من هذا المأزق .فتارة يلوم نفسه ويعاتبها على تصرفه اللانساني وجريمته النكراء وهوصاحب القلب الكبيرفيعود بفكره إلى هذا الشاب الذي وضع حدا لحياته ويتساءل إن كانت له أم تتفجع لفقده .وبين أخذ ورد اختلطت لديه الأفكار واشتعلت نيران الهواجس والأوهام .
ورأى أنّ هذا المكان وضع لمثله....وراح يردد في صمت:لما أريد الخروج من هنا؟ أليس هذا أفضل لي؟ فأن ذاك الصدر الحنون الذي ينتظرني عند باب السجن لأعانقه وهي تقول:كم اشتقت إليك يا بني وكم انتظرت هذا اللقاء.....وأين هم الأصدقاء الذين يرغبون في عودتي لنجتمع حول طاولة النرد او ندخن بعض السجائر...............
وهكذا كان أدم يواسي نفسه ويبرر وجوده خلف القضبان .
ما أصعب أن يعيش المرء غريبا في بلده ولنا لقاء مع آدم في المحكمة.
نظر آدم من حوله فلم يرغير الجدران وهي تحاكيه قسوة الزمن.فجلس يقلب كفيه ندما على ما صدر منه،يواسي الزمن،يواسي الحدث،يواسي نفسه المتأزمة ،و الحجرة الباردة في سكون،في حياد رفضت ان تبدي رايها في ادم المسكين علها تكسب ثقته بها فتنشأ بينهما مودة ،ومن له هنا غيرها.هل كانت حياته لتأخذ مسارا أخر لولا هذا الحدث؟ هل كان الزمن ليقسو عليه ؟ أسئلة من هنا وهناك خدّرت ذهن آدم،فراح يسبح في خياله إذ هو الوحيد الذي يحنو عليه .راى آدم أمه وهي تحضنه بشدة بعدما عادت من العالم الآخروأخذت تقبله بحرارة وتعده أن لا تتخلى عنه بعد اليوم ،ولن تسمح بايذائه وبينما هو في هذا العالم المحفوف بالرقة والحنو أيقضه صوت السجاّن وهو يخبره عن موعد المحاكمة•
عاد آدم الى أرض الواقع بعد هذه السفرة الرائعةوهو يفكر في كيفية مواجهة العدالة من جهة وأهل المجني عليه من جهة اخرى والأمر من هذا وذاك كيف ينظر في عيني والده المسّن والذي لم يسمع عنه شيئا مذ دخل الى السجن•
رافق آدم السجاّن وهو مقيد اليدان ،مشوش الفكر،شريد الذهن،يجهل مصيره•
وصل آدم الى المحكمة قبل الوقت المحدد للمرافعة وهذا شرط أساسي يعرفه الجميع وقاعدة من قواعد وآداب وسلوك المحكمة•إذ ينبغي على أطراف المرافعة الوصول الى المحكمة بعشرين دقيقة قبيل بدء الجلسة.ان الجديد في هذه القضية أنّ ادم لم يوكّل محاميا بل ترك الامر في يدي العدالة والتي وكّلت له محاميا كان قد التقى به مرة او مرتين كانتا كافيتين لمعرفة ظروف الحدث.
ظهر رجل فوق المنصة بأثواب فضفاضة وهو يمسك بمطرقة خشبية وطلب السكوت من الجميع،أصيب آدم بقشعريرة واأيقن أن هذا الشخص هو قاضي المحكمة فطأطأ الرأس في حياء .
نودي على آدم بصوت مرتفع يهز البدن،فاستجاب للنداء واقترب من المنصة ،ثم انتظر حتى أذن له بالكلام ،وحينها تقدم المحامي الموكل للدفاع عنه والقاضي يقرأ ما جاء في الملف سردا للرواية من بدايتها الى نهايتها.أعطيت الكلمة للمحامي فراح بكل ثقة يدافع عن آدم ،لا لتبريئه وإنّما للحديث عن الأسباب التي ساعدت آدم على القيام بهذا العمل الإجرامي وقال:سيدي القاضي،حضرات المستشرين
أقسم بأنّني لا اقول إلا الحق كل الحق:،إن هذا المتهم الماثل أمام عدالتكم الموقرة ارتكب جريمة في حق المجني عليه ولا أحد ينكر ذلك، حتى المتهم نفسه ،ولكن سيدي القاضي حضرات المستشرين
أرجو من حضرتكم سعة الصدرلأن الجاني هو ايضا مجني عليه،لماذا لا ننظر للجاني الحقيقي؟
نعم إنه ضحية ظروف قهرية..ثم أعطيت الكلمة لآدم فقال:نعم سيدي القاضي ارتكبت هذه الجريمة ولكنني لو عدت الى الخلف لما فعلتها،
لقد استفزني سيدي القاضي وخدش شرفي وشرف أمي التي لم أرها قط،من منكم يرضى بأن تشتم أمه على الملأ _ودمعت عيناه_وواصل كلامه والقلب ينفطر:لم تعد أمي من هذا الوجود تركتني أصارع الحياة بمفردي،لم أعرف حتى والدي الحقيقي ،وقد تكفل بي هذا الشيخ المسّن ،جزاه الله خيرا
لفعله هذا.اشنقوني,قطعوني إربا إربا ولا تمس أمي بسوء,أرجوكم لا تعاتبونها عما فعلت لأنها بريئة.وأوقفته دموعه فصمت ليكمل المحامي حديثه:أين أبوه؟ أين أمه؟ أين المجتمع؟أين من هم في خط الدفاع عن الأطفال أمثاله؟أسئلة ما كانت أسئلة!وواصل كلامه المؤثّر والجميع في حيرة مع من يقفون ؟مع الجاني؟ام مع المجني عليه؟
سيدي القاضي,حضرات المستشرين...أكان ليقوم بهذا لو شملته الأسرة بالرعاية الكافية؟ أكان ليقف أمام عدالتكم اليوم لو وجد الحضن الدافئ من أسرة سويّة؟ إنه والله أداة جريمة وليس مجرما.
أنا سيدي القاضي لا أطلب من حضرتكم العفو عنه ولكن التمس منكم ومن سعة صدركم تخفيف الحكم عنه.ثم شرعت المحكمة في مناداة الشهود واحدا بعد واحد إلى أن نودي على الشيخ الذي لا أقول رباّه وإنّما جمعهما مسكن واحد ,امتثل الرجل أمام المنصة وأقسم بقول الحقيقة :وراح يروي قصة آدم من بدايتها ,وكانت المفاجاة حين ذكر إسم والده الحقيقي والذي ترك زوجته حاملا ليواصل دراسته باوربا وفجاة وقع القاضي على الأرض مصابا بنوبة قلبية أخذ إثرها إلى المستشفى ,ورفعت الجلسة الى حين....................
عاد آدم إلى قضبانه وخيبة الامل تحضنه بيد من حديد وصورة الجريمة لا تبرح مكانها هاهنا تحط وترسي الاوتاد .كان يأمل أن يعاقب على ما اقترفه في حق الضحية والمجتمع فيسكن الالم ويسدل الستار على نهاية مسرحية كان بطلها ولكن الالم أبى الرحيل والجريمة عالقة بفكره بالصوت والصورة،توقظه كلما قرّر النسيان .
نعم عاد إلى نفس المكان حيث الحجرة الباردة والمسافات رسمت قدميه في ذات المكان والحيرة أشواك تصنع من الالم لوحة خالدة تروي قصة فتى لعب به القدر فكان ضحية شوقه وحنينه للدفء العائلي.
ظلّ آدم على تلك الحال شهرا كاملا لايعرف مصيره المجهول ونهاية ألمه بيد العدالة وملف قضيته لا يزال مفتوحا،والقاضي بالمستشفى بين الحياة والموت تربطه بالواقع آلات لو نزعت ربما لكانت نهايته .
وفي أحد الايام جلس آدم في ركن من الحجرة التي أصبحت جزء منه وبين يديه كتاب الله أنيسه ومدرسته في الصبر على تحمل الشدائد وتجاوز الالم وإذا بحارس السجن يقطع خلوته ليخبره أنّه مطلوب عند مدير السجن. ارتسمت على وجه آدم إبتسامة الرضى والبشرى إعتقادا منه أنّ المحكمة إستدعته لمواصلة المحاكمة .
دخل آدم على المدير فألقى التحية و الاغلال جزء من الصورة.كان استدعاؤه لإخباره أنّ القاضي عاد إلى وعيه وهو يريد مقابلته.فكرّ آدم كثيرا في سبب ذلك ولم يجد جوابا لتساؤلاته .قضى ليلته تلك وهو يسأل نفسه:ما سبب إستدعاء القاضي لشاب مجرم لا تربطه به علاقة؟ خدّر فكره بجواب معقول كان أنّ القاضي يريد إنهاء القضية التي شرع فيها .
وفي الصباح الباكر غادر آدم السجن برفقة أربعة حراس ويداه لا تزلان مكبلتان .وهناك بالمستشفى دخل آدم حجرة المريض الذي كان مصفر الوجه تبدو عليه علامات رجل يلقي آخر نظرة على العالم وهو يودع أعز ما يملك وراى مشهدا مؤثّرا زعزع كيانه ألا وهو بكاء ثلاث فتيات في مقتبل العمر ،إقتربت منه إحداهنّ وهي تعانقه بحرارة قائلة:كم انتظرنا هذه اللحظة،وكم كان والدي يأمل إيجادك ،لقد تعب وهو يبحث عنك كما تبحث الابرة في كومة تبن وما وجدك قط ،عشت معنا وانت بعيد عنّا ، كنت تجلس دوما إلى مائدتنا فتعيش أفراحنا وأقراحنا.أخي ..................
قالتها ودموعها تنهمر ثم اتجهت نحو فراش والدها وهي تردد: ها قد تحقق حلمك ووجدت إبنك الوحيد فلا تتركنا يا أبي ،سنجتمع جميعا حول مائدة الطعام وأصواتنا تملأ المكان .
وقف آدم كالمعتوه لا يفهم شيئا ورأسه يكاد ينفجر لما يرى ولما يسمع .واقتربت منه فتاة أخرى وهي تعده بأن تتولى قضيته وتفعل كل ما بوسعها لتساعده في قضيته وتقول أنّها وعدت والدها أن تجدك لو حدث له مكروه لأنّه كان يعاني من نوبات قلبية سببها يأسه في إيجادك .
فتح القاضي عينيه وأشار بيده إلى آدم ليقترب منه ففعل وإذا بالاب يمسك بيد إبنه قائلا: لا تخف يا بني أختك محامية ماهرة ستتولى قضيتك بمساعدة زوجها وهو قاض معروف ثم واصل حديثه ،لا تفكر يا ولدي أنّني تخليت عنك ،صحيح أنّني سافرت لإتمام دراستي ولكنني ما استطعت فراقكما فعدت ولم أجدكما بنفس المكان،بحثت عنكما طويلا دون جدوى وختم كلماته ب:أحببتك......... وكانت كلماته الاخيرة .جس الطبيب نبضه وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ...............
آدم بقلم ليلى بن صافي