قبل أن أقوم برحلتي الجنونية ، حاولت أن أجرب نشر نصوصي الكونية في صفحات الشبكة العنكبوتينة ، فكانت النتائج مذهلة ، الكل يصرخ ، إبدع .. إداع .. جربت نشر نصوص هزيلة ، فكان الجواب ، إبداع .. إبداع ..حاولت أن أقرأ الكثير من النصوص المبدعة ، ففهمت شيء جديد ، السذاجة إبداع ، والتفاهة إبداع ، والتسطيح ، الهشاشة إبداع ، كل شيء يكتب إبداع ، المهم إن تكتب بعد الردود عبارات محددة مثل ، ود ، حب ، عبق ، شفيف ، مودتي ، محبتي .. وللكاتبات الجميلات فقط نضيف قبلتي .
عندها بدأت الرحلة ، هجرت النشر إلى الأبد .. وذهبت لأبحث عن معنى الكتابة ، لي الحق أن أًسوق التفاهة ، وللأخر حق الإعجاب بتفاهتي ، ليست هنا المشكلة ، المشكلة باني سأضطر للإعجاب بتفاهتك من اجل المجاملة ورد الجميل . كان أمامي طريقان للسير، الأول في بحر هائج من الكلمات ، ضجيج أسمه الشعر ، كذبة أسمها القصة ، ثرثرة أسمها الرواية ، هراء أسمه المقالة ، ولان الإبحار أصابني بالدوار ، لذلك كنت أتقيأ الإبداع بدون توقف .
قررت سلوك الطريق الثاني ، طريق صحراء التجرد ، كان علي أن اقطع لساني ، وأسير بقدمين عاريتين على رمال الصمت الملتهبة ، هناك تشعر أن البحر هو سيد الموقف ، وأمواج الكلمات تطرق راسك من الأعلى فيأخذك الزبد إلى حيث يشاء ، هناك يكون الشراع أسير الريح ، وأنت أسير الشراع ، ولكن هنا في قلب الصحراء تشعر أن الرمال صامتة ، والريح تلعب بالكلمات لعبة حذرة ، طريقتي الجديدة في الكتابة ستكون مبتكرة ، سأستعمل التخاطر ، هي طريقة أصيلة في الكون ، واللغة اختراع أهوج جعلنا نتيه في دروب الكوكب الضيقة .
أيام وليالي وأنا أسير بدون انقطاع ، لم يصادفني شيء يستحق الذكر ، لا أفاعي ولا عقارب ولا مستعمرات للنمل الأبيض ولا الأسود حتى ، لا واحة نخيل وحيدة ولا نبات الصبار المشهور بخزنة للماء ، لا سراب يجعلني أركض خلفه كالمجنون وحين أصل إليه لا أجد شيء ، وحتى لا تعتقدون باني أكذب عليكم لن أقول لكم لا رمال ...
في المنتصف وحين بدأ العطش يهجم بشراسة ، ظهر لي فجأة شيخ حكيم ينتصب بشموخ ، بالمناسبة هو يشبه ذلك الشيخ في فلم سيد الخواتم ، شعره ولحيته المسترسلة كانا بلون ثوبه الأبيض الطويل يده اليمنى تمسك عصا غليظة مصنوعة من الخيزران والأخرى تمسك بكتاب سطر على جلد غزال ، تسمرت في مكاني لدقائق ، وهو لم ينطق بحرف واحد ، مرت ساعات ونحن نقف وجهاً لوجه كحجري شطرنج أنتصبا على رقعة بلون واحد في لعبة لم تنتهي منذ عام ، كيف أنطق وأنا تخليت عن لساني بإرادتي ؟ وكيف ينطق ونحن في منطقة اللاكلام ؟ كنت أريد أن اروي له مأساتي مع الكتابة .
لتفوز بجائزة دولية يجب أن تذكر الإرهاب ، لتفوز بجائزة عربية يجب أن تذكر غزة ، لتفوز بجائزة عراقية يجب أن تذكر الطائفية، ولتفوز بجائزة دينية يجب أن تذكر هبل ، ولتفوز بسلة المهملات أكتب عن الإنسان فقط .
دققت النظر في عينيه ، يبدو أنه لن يتكلم ، قررت أن أواصل طريقي وأتجاهل وجوده ، عندها سأجبره على الكلام ، تحركت بعيداً ولم ينطق بحرف ، ومنعتني كرامتي من الالتفات للخلف ، انتظرت دقائق ولم يحصل شيء ، يا للغباء سأعود لألقن هذا الحكيم درساً في الحكمة ، عدت راكضاً ووقفت متأهب للصياح ، كديك مغرور فاته الفجر ، فأشرقت الشمس ليجد دجاجته بين أحضان ديك أخر ، وقلت له : أنت .. أيها الحكيم ...لا تلعب معي هذه اللعبة ، كم اكره ثيابكم البيضاء ، وصمتكم المتواصل ، وهذا الكتاب القديم يصيبني بالهستيريا ، أتعرف لما أنا هنا أيها الشيخ ، بالتأكيد أنت تعرف ، الحكماء الذين تجاوزوا التسعين من العمر يعرفون كل شيء !!!
هراء ... سأقول لك الآن ما هي الحكمة ، الحكمة لا تنتظر حتى التسعين ، الحكمة لا تستقر في كتب قديمة ، الحكمة لا تعني الصمت أمام التفاهة ، الحكمة لا تعني السكن في الكهوف ، أتعرف كنت انتظر أن أقابل حكيم في العشرين أو الثلاثين من العمر يرتدي بذلة أنيقة برباط عنق عريض ، كنت أريد أن يفتح لي حاسوبه المحمول بدل كتابك الممزق هذا ، وسأقول لك شيء أخر ، لا تنظر لي نظرة إشفاق ، ولا تقول لي يابني ، ولا تتصرف كأب روحي عطوف ، وكف عن التصور بأنك تعرف كل شيء ، ولا تتظاهر بأنك تتحملني لسعة عقلك ورجاحة تفكيرك ، ولا تلمح لي بأنك تستطيع قراءة أفكاري ، وسأنصحك نصيحة لوجه الله ، أذهب إلى حلاق جيد ، وأحلق ذقنك واصبغ شعرك ، واستعمل عكازة طبية ، وأجلس كل يوم في المقهى لنصف ساعة فقط لقراءة صحف الصباح ، عندها ستكون حكيماً بالفعل .
أخيراً خرجت من شفتيه حروف لم افهمها ، ثم غير لهجته وقال : أيها الفتى أنت تشبه فتاة تريد حرق نفسها في الحمام لآن والدها منعها من الحديث بالهاتف ، أنت هنا في مملكتي لذلك سأكون كما أشاء ، وهذا الكتاب ورثته عن أجدادي وأنا أستعمله للكتابة وليس للقراءة ، أنا حكيم ليس لآني أقرأ الكتب وأفك أسرارها ، جائتني الحكمة لأني أحول الحياة إلى كتاب ، الكتب فقط للولادات التي تحصل قبل أوانها ، حاضنة للخدج لا أكثر ولا اقل ، بالأصل لا يوجد احد يحتاج إلى كتاب .
انطلقت مسرعاً إلى حاسوبي وقررت أن ابني مملكتي بنفسي فكتبت مقالة طويلة عن أهمية المخطوطات القديمة وكيفية العناية بها ، وانتظرت الردود بفارغ الصبر ، فجاءني الرد الأول على الفور ، يحمل توقيع عضو جديد بأسم شيخ الصحراء، كتبت فيه كلمة واحدة فقط بخط ذهبي عريض هي ... مودتي
أحمد العبيدي
25 نيسان 2009