على غير موعدٍ تقدمت مني .. بهدوء ، واثقة الخطى ، تختال ، ضاحكةً ، تبعث سحرها من مكان مجهول ، لا اعرف شيئا عنها سوى بعض المفردات ، وبعض الإيحاءات والرموز الغامضة ، وفي نشوة همست ..
- لا تبتعد عني فربما حاولت ، ان ألجا يوما ما من حرارة الكلمات إلى ظلك
انتابني موج هادر بعث في نفسي الاستغراب
أتراها تمازحني ؟
أم تداعبني ؟
أم هو الحلم ؟
وفي نشوة لم اشعر بها من قبل تسلل الى مشاعري همس جديد ، او ربما لحن كان قابعاً في الأعماق ،راكدا في أروقة الصمت ، لم يستيقظ إلا عندما داعبت كلماتها مكان الجرح ،
وفي لحظات بدأ اللحن الجميل يستيقظ كلما تذكرت كلماتها ..
وكأنها اللحظات قد تسابقت مسرعةً لتخط من جديدٍ أنشودة لم أتذوقها من قبل .
عرفت أين تصوب سهمها ، فأصاب الهدف .
مرت أيام ... أدركت أن ذلك كان حلماً ، أو بحرا من الرؤى التي تراكمت بسب الإرهاق ، ربما كنت أحلم ببعض الكلمات الهادئة كي أستظل بها من متاعب الحياة ، فوجدت فيها دعابةً لمشاعري ، وأيقنت آنذاك أن المستحيل لن يكون واقعا .
عدت لأمارس حياتي من جديد وكأن شيئا لم يكن ، لكنني لم أستطع ، فربما بقي صدى الكلمات يدق في ذاكرتي ، فتستيقظ معه مفردات جديدة من اللغة لم أستخدمها من قبل ، لذلك قلت :
- سأنتظرها مرة أخرى علها تعود..
في المكان نفسه ، بالقرب من الياسمينة المعهودة ، التي التقيتها عندها ذات مره ، كأنها الصدفة ساقتها إلي ، شاهدت طيفها ، قد أشرق من جديد ، أتت لتنقش ما تريد من حروف جديدة في سمائي الغائمة ، كان الجو ماطرا ، والرياح تعصف في المكان ، بدأنا نختبئ من غزارة المطر تحت الياسمينة علها تقينا سيل المطر الغزير .
أمعنت النظر في ملامحها الملائكية..انتابتني لحظات أحسست فيها بالتيه ، او عدم الاتزان .. لأجد نفسي اغرق في يم بلا قاع ، أسرتني ببريق عينيها ، فهما تتحدثان ألف لغة ولغة ، أهدابها تعزفان أنشودة اسطوريه ، أما جفناها كقعر فنجان تخبئ بداخلها عالماً غيبياً ، فوجدت الكون قد توقف عن الدوران ، لهذا السحر الغريب ..سبحان المعبود !! فمها مرسوم كالعنقود !! وجهها كالبدر بدأت تلملم خصلات شعرها الطويل وقد عانقتهما حبات المطر ، فازداد المطر جمالا .. لذلك عشقت المطر ، وجدتها تهمس
قائله :
- الليله وعلى غير موعد والمطر يتساقط على نافذتي اضات لك شمعه ، فوجدت الريح تنساب على قلمي ليعصف جنوني على ورقي ، فكتبت لك بعض الكلمات الدافئة علها تقيك برد الشتاء القارص ، الذي غزى قلبك ...
ظننتها تقول ذلك للمداعبة لكن شيئاً غريباً تملكني ، لم يعد قلبي مثقلا بالمفردات ،
وجدت نفسي أقول لها ..
- شكرا لك على هذه الكلمات الرائعه ،( أسعدني حضورك هنا) ، فقد جعلت الشمس تشرق في سمائي من جديد ..
شكرا لهذا العطر الذي تنثرينه في المكان ..
استأذنت .. ذهبت إلى حياتها .. ومشاغلها .. مع (دمعتها) التي كانت تنزل من مقلتيها ، حاملةً سراً عميقاً لم أتمكن من احتمال سياطه
نسيت في المكان بعض الصور واللوحات الجميلة ، التقطتها بسرعة وبدأت أشاهدها واحدة تلو الأخرى ، كانت في غاية الجمال عكست روحها الملائكية .. بألوانها .. فيها الحياة ، جميلة كعينيها ، وإطاراتها الخشبية غاية في الإتقان والتصميم .. بدأت أمعن النظر فيهما ، املأ شغفي بهذا النمط من الفن الساحر .. حتى رايتها تتكرر في كل لوحه ..
عدت الى منزلي .. ومعي لوحاتها .. وقليل من كلماتها
بدأت أضع اللوحات على جدران غرفة مكتبي .. حتى أشاهدها أكبر وقت ممكن ، تحت كل واحدة منها كنت اكتب بعض العبارات التي تليق بها ..
مرت الأيام مسرعة .. كنت قد نسيت ما حدث ، بدأت أعود الى حياتي الطبيعية ، لم نسَ أمر اللوحات ، ولا كلماتها ، التي بقيت في داخلي لذلك قررت أن أسجنها وأخلدها في أجندة الزمن ..
في أحد الأيام توجهت الى مكتبي متأخرا ، فشعرت أن أحدا ما قد دخل الغرفة .. كان الباب مفتوحاً ، سألت أحد الزملاء ..
- هل دخل أحدكم غرفتي ؟
- قال لا
- اليوم صباحا عج المكتب بمئات المراجعين ، ولم نفرغ منهم إلا قبل مجيئك بدقائق
وبسرعة صرخ قائلا
تذكرت :
- شاهدت امرأة تتجول في الصالة المجاورة
- ومن هي هذه المرأه ؟
- لا أعرف .
- كيف شكلها إذن ؟
- (إنها امرأة لا تشبه النساء) .. جميله حالمة ، جميلة العينين ، حتى أنني ظننتها أنها ليست من بلادنا ، لذلك لم أسألها عن شيء ، إنها تشبه الياسمين ، يفوح منها العطر .
دخلت مكتبي لأتفقده ، لم أجد شيئاً ناقصاً ، لفتت نظري عبارة على الجدار المقابل ، خطت بأحمر الشفاه ..
- لو كنت أعلم انك ستأخذها .. كنت أهديتك بعضا من (حروفي) لتضعها على كل لوحة
إندهشتُ جداً .. انتابني الجنون ، عندها أدركت أنها هي أتت باحثةً عن لوحاتها ..
بقيت على هذه الحال أياماً وشهوراً ، في كل يوم أغير مواقع الصور واللوحات ، أبدل الكلمات بكلمات أخرى ، اكتب ما تجود به مخيلتي من مفردات ..
هكذا أدمنت غيبها ، وبدأت أفكر في نسيانها، لأن أياماً وشهوراً مضت دون أن أعلم لها خبراً ..
عدت الى حالة (الاتزان) التي كنت أحلم بها دائماً ..
في صباح أحد الأيام .. رن الهاتف .. فسمعت صوتا يهمس : برقةٍ ملائكية ، ينساب عبرَ أسلاك الهاتف ، كأنه محسوس ، ملموس ، ملون ، عابق بأريج السوسن ، يتخلل الأذن دون استئذان ، ليسري في الشرايين والأوردة بحنان :
صباح الخير ..
قلت صباح الأنوار من معي
- أنا ملاك
سكتُ باستغراب !!
- منّ ملاك ؟
- اسكن ما وراء المحيط..وقد اتيت لزيارة مدينتك
- ما رأيك أن تسمع بعض الكلمات التي كتبتها قبل قليل
- لا مانع لدي.. هاتي ما عندك
بدأت تقرأ بصوت ما زال صداه يعزف في أذني
- لماذا لا أحاذر حين أحدثك،،ولا أخاف الألغام؟؟
لماذا تنساب اللغة كسيل فضي رقيق؟؟
لحديثك دوما وقع
تسافر بالروح إلى حيث تشاء
وكأني أعيش على صدى المطر
ترى..لمَ أكره أن تمّر لحظاتي
دون أن تحمل لي شيئا منك
لم أصدق أنها ملاك ، عندها عرفت من تكون .. !!
إنها االمرأة المعطرة برائحة الياسمين ، نعم هي نفسها .. حروفها الحروف نفسها .. كلماتها الكلمات نفسها
- ألم نلتقِ من قبل ؟
قالت : لا هذه أول مره
إذن لماذا حاولتِ بي ؟ الاتصال بي ؟ ..
- قالت سمعت أنك بارع في الكتابة
في كل لحظة كانت تنطق بها حرفا كانت أتأكد أنها هي .. لكنني للأسف لم أكن أعرف اسمها..
بقيت على هذه الحال في كل صباح أنتظر!!.. أحلم بصوتها الملائكي .. أهرع كلما رن الهاتف .. لأستمتع بأنفاسها الاثيريه .. وهي تقرأ كلماتها المنمقة بعناية ، شمس ربيعية حالمة تبعث الدفء في المكان ...
أرادت أن تختم أحزانها .. عندي ، لألقي بها في البحر السابع للنسيان ، أو وراء المستحيل ، هذا كل ما أردت !!
أردت أن أسرق حروف زمانها السوداء ، ومفاصل معاناتها ، وكل أصداف وحدتها ، تمنيت أن أرسمُ لها فجرا مشرق ، يزيل غيوم الوحدة والكآبة التي ترتسم بين حروفها ..
(صباحي كاد يكرهني) ، لم أغادر غرفة مكتبي ، وبقيت منتظراً !!
وقبل انتهاء الدوام بساعة ، رن الهاتف من جديد ، كانت هي .. تعطر أثيري بمسكها .. وبدأنا نتناول أطراف الحديث ..
قلت لها :
- حروفك تشبهك ، أنت بارعة في غزل الكلمات وانتقاء المفردات الجميله
- ممكن .. لكن أشعر أن حروفك أنت أجمل
- حروفي .. استغرب !!
- أي حروف تقصدين ؟
- تلك الكلمات الجميلة التي وضعتها أسفل الصور
- أسفل الصور ؟
- إذا أنت الياسمينة .. اقصد الفتاة التي التقيتها عند الياسمينة
شعرت بابتسامتها تغزو عالمي ، وكأني وجدت ضالتي
- أرجوكِ هل أنت هي ؟
- نعم أنا هي
- لماذا فضلتِ عدم البوح عن اسمك منذ البداية
- لا أدري .. ربما كنت اختبرك هل ستعرفني أم لا .
- يا ستي لقد عرفتكِ من أول حرف نطقتِ به .. فشهد الحرف يقطر من بين شفاهك
- ضحكت مرة أخرى بصوت مرتفع
- أنا لا ( ستك ولا جدك )
- عذرا سأقفل الآن
- متى أراكِ ؟
- في كل يوم ، في الوقت نفسه ستجدني بالقرب منك ، سأحلق في سمائك ، لارتشف من رحيق مدادك ... أعذب الكلمات
- مع السلامة الآن
- في أمان الله
مرت الأيام ونحن على هذه الحال ، بدأت أزهار الربيع تتفتح في عالمنا، وثب العشب من جديد ، واللحن الجميل يعزف على أوتار روحنا .. بدأت أهجر عالمي إلى حلم من الموسيقا ، أفتح كتب الشعراء ، لتقذفني الكلمات الى عالم صار الحلم فيه حقيقة ..
استيقظت من حالة الذهول هذه ..على رنة هاتفي .. بلا وعي بدأت أقرا لها بعض الكلمات التي كنت قد كتبتها قبل خلودي للنوم يوم أمس ..
قاطعتني قبل أن أكمل ما كتبت
- ما بك سيدتي ؟
- لا شيء .. لا شيء
- الى متى يمكنني البقاء صامته لا أقوى على الرد .. اشعر ب ارتجاج غريب ..
يكتنفني .. كلما (ولجت) الى أعماق بحر كلماتك ..
- أنا أيضا سيدتي.. لم أعد أحتمل ، قد لا يكون بإمكاني أن أهديكِ كل العمر ، لهذا سأهديكِ لحظات من هذا العمر .. فحين أسمع صوتك تصبح كلماتي شعراً ...
- هل يمكنني سيدي الإبحار إليك .. كالريح والمطر .. أستوطن عالمك ، فجأه على غير موعد وجدت نفسي وطأت أرضك ، شربت من نبعك ، فلم أعد أعرف كيف أغادرك ..( لربما طاب لي المكوث) .. ما أعرفه الآن هو أنني.... احبك ....
- ....وجداااا....
لأنك حلم بعيد ممتد من عمق جرحك إلى حافة وجعي
فدعيني أدندنك...أغنية..على قارعة جنوني...والمطر...
ولتحتويكِ..كل احتواءات...أنفاسي ...لتلتفي بي..والتف بك
وتصبح كلماتنا... دثاراً ...حباً...ويبقى..جنونناً..وحدة
... يبلل الأرواح ...أحبك...يا (امرأة لا تشبه النساء)..