كلمة التوحيد في اللغة مشتقة من وحّد الشيء إذا جعله واحداً، فهو مصدر وحّد يوحّد، أي: جعل الشيء واحداً.وفي الشرع: إفراد الله سبحانه بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
" يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه: لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرارعليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله. "
وما جاء من الأحاديث، التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة! وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأوّل بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالداً، ونحو ذلك من التأويلات. فإن الشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، لأن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم من الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار. "
لا بد من قبول القلب، وقول اللسان.
وقبول القلب: يتضمن معرفتها والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علماً ومعرفة ويقيناً وحالاً: ما يوجب تحريم قائلها على النار.
وفي حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل هو أنه حصل له ما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات. هذا القول على ما نرى مجرد اجتهاد من بعض العلماء إلا إذا ورد في ذلك نص قرآني أو حديث صحيح، والله أعلم. ويؤكد قولنا هذا ما ورد من الحديث أنه يخرج من النارمن قال في يومه " لا إله إلا الله" فبسبب هذه الكلمة الله يخرجه من النار إلى الجنة.
و ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند سياق الموت عن السير إلى القرية فجعل ينوء بصدره، ويعالج سكرات الموت، لأن ذلك كان أمراً آخر، وإيماناً آخر ولذلك ألحق بأهل القرية الصالحة. وقريب من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش، يأكل الثرى فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن خاطرت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكوراً.
فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها.
وقد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم “من قال:
لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله.”
شروط كلمـة التوحيد : لا إله إلا الله :
كلمة الـتـوحـيد جعلها الله تعالى باب الدخول في الإسلام ، وثمن الجنة ومفتاحها ، كما جعلها سبب النجاة من النار ومغفرة الذنوب .
وقد تواترت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المعاني: فمنها: ما جعل الإتيان بالشهادتين سببًا لدخول الجنة ، وعدم احتجاب قائلها عنها ، فإن النار لا يخلد فيها أحد من أهل التوحيد الخالص ، و يدخل الجنة ولا يحجب عنها إذا ُطهر من ذنوبه بالنار .
وفي" تحفة الذكرين " ما روي عن عبادة بن الصامت ، رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من شهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأن محمدًا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه ، وأن الجنة حق والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" ، وفي رواية: "أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية شاء " الحديث أخرجه البخاري ومسلم كما قال المصنف رحمه الله وهو من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من شهد أن لا إله إلا الله الحديث الخ ولفظ مسلم من قال اشهد الخ وأخرجه أيضا النسائي يقول الإمام الشوكاني وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف وهي قوله صلى الله عليه وسلم على ما كان منه من عمل وهي ثابتة في الصحيح وبهذا يدفع تأويل المتأولين لهذه التفضلات الربانية والمنح الإلهية والحمد لله رب العالمين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:
"يا أبا هريرة اذهب بنعلي هاتين وأعطاه نعليه - فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه ، فبشره بالجنة ".
وعنه أيضاً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-:
" أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله عبد غير شاك ، فيحجب عن الجنة " ، وفي رواية له أيضاً: "إلا دخل الجنة ".
وعن عثمان ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ".
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
" ما من عبد قال لا إله إلا الله ، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " ، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال:" وإن زنى وإن سرق ثلاثاً" ثم قال في الرابعة: "على رغم أنف أبي ذر ". قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رَغِمَ أنف أبي ذر.
ومعنى هذا الحديث: أن الزنى والسرقة لا يمنعان دخول الجنة مع التوحيد ، وهذا حق لا مرية فيه ، وليس فيه أنه لا يعذب عليهما مع التوحيد ، ففي مسند البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "لا إله إلا الله نفعته يومًا من دهره ، يصيبه قبل ذلك ما أصابه ".
ومن الأحاديث النبوية ما جاء بيانًا لتحريم دخول النار على من أتى بالشهادتين ، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ رضي الله عنه :
"ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار " .
وفي حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله» ، إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية الشريفة.
وقد يصاب بعض الناس بالغفلة عن حقيقة التوحيد وشرط النجاة ، ويغتر بكلمة يديرها على لسانه دون أن يفقه معناها ، يظنها مفتاحًا للجنة ، بمجرد نطقها باللسان ، غافلاً عن شروطها التي ينبغي أن تتحقق، ومقتضياتها التي ينبغي أن يعمل بها ، لتكون مفتاحًا صالحًا لفتح أبواب الجنة الثمانية.
وشهادة التوحيد هذه ، سبب لدخول الجنة ، والنجاة من النار ، ومقتضى لذلك ، ولكن المقتضى لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه ، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه ، أو لوجود مانع من الموانع ، وهذا قول الحسن البصري ووهب بن منبه ، رحمهما الله.
فقد قيل للحسن البصري رحمه الله؛ إن أناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة". فقال: من قال لا إله إلا الله ، فأدى حقها وفرضها دخل الجنة .
وقال للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله ، منذ سبعين سنة، فقال الحسن: نعم العدة ، لكن لـ"لا إله إلا الله" شروطاً ، فإياك وقذف المحصنة!
وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال: بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفـتاح له أسـنـان فـتح لك، وإلا لم يفـتح لك.
ويدل على صحة هذا القول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم رتب دخول الجنة على الأعمال الصالحة في كثير من النصوص: فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن رجلاً قال: يا رسـول الله أخـبـرني بـعـمـل يدخلني الجنة. فقال:
"تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم" .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رجلاً قال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال:
"تعبد الله لا تشرك به شيئًا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان " فقال الرجل: والذي نفسي بيده ، لا أزيد على هذا شيئاً ، ولا أنقص منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا".
وقد تواردت مع ذلك آيات وأحاديث تبين توقف دخول الجنة والنجاة من النار على من فعل الفرائض واجتنب المحارم ، فصارت تلك الأحاديث السابقة مفسرة مبينة ، وينبغي أن يؤخذ بالبيان والمبين معًا، ولا يجوز إعمال بعض النصوص والأدلة وإهمال سائرها.
ومن القواعد المقررة: أن المطلق يحمل على المقيد ، فإذا جاءت نصوص مطلقة ، وجاءت نصوص أخرى متحدة معها في الحكم والسبب ، فإنه يحمل النص المطلق على المقيد. والأحاديث التي جاءت تبين أن دخول الجنة وتحريم النار معلق على شهادة "أن لا إله إلا الله" ، وهذه الأحاديث المطلقة جاءت أحاديث أخرى تقيدها. ففي بعضها:
"من قال: لا إله إلاالله مخلصًا ." ، وفي بعضها: " مستيقناً بها قلبه .
"وفي بعضها: "صدق لسانه " ، وفي بعضها: يقولها حقا من قلبه ..
وكذلك علقت الأحاديث دخول الجنة على:"العلم بمعنى لا إله إلا الله" ونصوص أخرى تبين الثبات على هذه الكلمة ، ونصوص أخرى تدل على وجوب الخضوع لمدلولها. . الخ.
ومما سبق كله استنبط العلماء رحمهم الله تعالى شروطًا لابد من توافرها، مع انتفاء الموانع، حتى تكون كلمة "لا إله إلا الله" مفتاحًا للجنة ، وهذه الشروط هي أسنان المفتاح ولابد من أخذها مجتمعة ، فإن شرطًا منها لا يغني عن سائر الشروط .
ولعل هذه الشروط تكون واضحة من الإشارات التي سنشير إليها في مشاركة قادمة إن شاء الله.
ونسأل الله الغفران من كافة الذنوب، ومن أي خطأ غير مقصود فإنه لا معصوم إلا من عصمه. والحمدلله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم