نزهة لبحيرة الدمع
حينما يخلد إلى وحدته يحاول جاهداً حجب سمعه عن صوت يلاحقه منذ السنة الأولى لزواجه . صوت بكاء ، ضحك .. يقتحم سمعه بهدوء يهبط عليه من سقف الغرفة أو من تحت السرير ... حتى من الّلا ٳتجاه . يفرش جسده على البلاط . يزور بنظره نحو الأركان . يمد يده برفق صوب ولده الصغير الملتصق بالسقف .
- ٳنزل .... تعــال .. أنا أسمعك .. لم تخفي نفسك ؟
يهرول خلفه في باحة الغرفة الفارهة التي لم يحكم مزلاجها من الداخل. يطارده بإقدام تفتعل العجز . حتى يتعبا من اللعب فيسكتان عن الهذيان.
زوجته المبتلية هي الأخرى بذات الغم تفحم صبرها بجمرة خمسة أعوام من الهمسات والغمزات الممنوحة لها مجاناً من جاراتها الولودات. كان يعتصرها الخوف من نضوب قلبيهما ، المتهمين بالعقم ، من حب آسـر . وساوسها تعاملت معها بخشونة . الأم الكبيرة ، منذ سنة ، بدأت تسحب ودها .وتغمز لها باياك أعني وأسمعي يا جارة كل تلك الأحزان كانت بخسة الثمن ، لأنهم تنازلوا عنها بطرفة عين حينما سدد الزوج كلفة تحليل عيّنة الحمل ذات يوم .
جمح بعد أن نزل من السيارة ، نحو البيت . لم يتسن لأحد رؤية قدميه وقد لامستا الأرض . غير مكترث بخيوط عنكبوت لطخت رأسه من شجرة كانت تظلل الباب .
- أين أنت يـا أمي ؟ ٳتركي كل ما لديك من سكاكين ، وأعواد سبانغ ولحوم . تعالي ألبسي زوجتي ثوب حملها الجاهز .
- مــاذا تقــــول.... حـامــل ؟ !!!
أشرق وجه أمه المكدور . ٳحتضنتها . مسدت على رأسها , على بطنها وهي تعبئ فمها بالبسملة والشكر.
الزوج ٳنكمشت ملابسه أمام ٳنتشاء جسدة بعافية لذيذة. الزوجة عقدت مع المرآة جواراً دائماً تراقب نمو بطنها بهدوء. هواجس الآخرين وأحلامهم ٳنتفخت هي الأخرى بفرح فضفاض لرؤية الحفيد .
الشهر التاسع مد يده لمصافحة المودعين وسط سيل من الأدعية والابتهالات والنذر لمقدم لأعز ضيف . ومثلما غسلوا وجوههم بصباحات الشهر التاسع ، ٳنطفأت نهارات الشهر العاشر ورحلت أماسيه دون بارقة
أمل . وساوس وتساؤلات تسللت لاغتصاب فرح العائلة . أحلام يقظة سابقة لأوانها ، لا يريد أي منهما الاستسلام لها . شاطروا الصمت الساكن بكل زاوية في البيت بعيون شاخصة لتل اللحم الجاثم فوق الجسد الجائع لنوم هادئ.
ألسن المتحذلقين والعرافين وقارءو الكف وعجائز ذوات خبرة ، بين محب وكاره، لم تستطيع النيل من جلد الزوج ورباطة جأشه .
- الحالة أعللها بخطأ في حساب شهور الحمل . قال الزوج وهو يعبيْ أعصابه المتعبة بكل ما لديه من جليد . وتمنى على ذويه أن لا يتفاءلوا بأحزان باهظة الثمن.
لم تصمد توقعاته وعزيمته طويلاً. الثرثرة وعيون الأهل أكلت ما تبقى له من صبر . ٳذن لا وقت للانتظار . ليس لديه حل أفضل من الوقوف أمام باب غرفة الولادات لأقرب مستشفى . أمه وآخرون من الدرجة الأولى أقحموا أفواههم . شاركوه توسلاته لدى الطبيبة التي تقوم بالمهمة . نط عليهم رأسها من شق باب الصالة . وجهها مبلل باستغراب خال من الهدوء .
- زوجها موجود ....؟
- نعم دكتورة ....أنــا !!
- زوجتك يا محترم قد أنهت شهرها الحادي عشــر .
هزت رأسها بحيرة ، ثم سحبت جسدها للداخل . أغلقت خلفها الباب. تركتهم ما بين باسم وباك ومتضـرع .يتراشقون النظر كمجانين . أنهوا ساعات ٳنتظار مريرة مع عشرات المكتئبين . منحوتين على كراس تناثرت في القاعة . تطالعهم بين الفينة والأخرى أجساد راقد . بجهد مضن يتغلبون على جياشة عواطفهم من الإفلات . الزوج تسمر أمام صورة على الجدار يظهر فيها طبيب يغطي نصف وجهه بقماش ويغمد مشرطه في جسد آدمي . بعدها خرجت الزوجة تبكي بكامل وعيها . ربما حجم لتر من البنج كان قليلاً بحقها . أثداؤها تذرف دموع الأمومة . بطنها ما زال يحتفظ بعافيته الأولى . الطاقم الطبي مشوا خلف العربة التي كانت تقلها بموكب جنائزي . صامتين بخجل تفــوح منه رائحـــة فشل عمليـة تـرحيـل شخص .......