قراءة في قصيدة(نزيف على مقصلة الصمت للشاعرة الجزائرية : فاكية صباحي )
قراءة في قصيدة(نزيف على مقصلة الصمت للشاعرة الجزائرية : فاكية صباحي )
بقلم : سعد السعد
للحقيقة أقول قلما نجد نصوصا تختزن في مفرداتها وجع جيل وألم عصر بأسلوب شعري ناضج من بين الزخم المتراكم من التعابير التي تحاول بصيغ متاحة من رسم ملامح الحقب التاريخية وما تطرز فيها من أحداث ومستجدات ..ولكننا هنا نقف أمام نص باذخ بالشعر والهم والشجن المعاصر ..نص يقطر شعرا بالدرجة الأساس ، ويشير إلى إمكانية فذة وقدرة على رسم ملامح مرض العصر في وطننا العربي المنكوب تحت ما يسمى بالصمت العربي..فالعنوان يسترعي الانتباه بشدة ويكفي ليكون عنوانا لحياة أمة .. بما فيه من تصوير بارع يعبر عن ما تعانيه الأمة العربية .
أجد الشاعرة تقمصت دور أمتها لتخاطب الزمن ومن يتحكمون في أحداثة ومجريات الأمور فيه فتقول:
إني هنا)
يا قصةً قبل البدايات انتهتْ
إني هنا ..
أنّاتُ روحٍ بالمنافي غُــرِّبتْ
إني هنا..
دربُ الربيعِ إلى الحياةْ
صدري يخبىءُ لوعةً
ما قد تبوح به تسابيحي وأدعية ُالصلاةْ)
وكلمة (إنّي هنا) أكثر دلالة من (أنا هنا) بما فيها من دلالة التأكيد والإصرار عليه وهي دليل الوجود رغم محاولة إخفاء معالمها ثم تدخل في النص بعتاب مؤلم بسرد ما تعانيه من غربة في المنافي المصطنعة فتقول درب الربيع الذي تبحثون عنه هو أنا وفي صدري لوعة من جهلكم بفحوى ما فيه من تسابيح لهديكم إلى الأمل المنشود
إذن هي الأمة مكبّلة بصمت الخانعين الذين منيت بهم من الطغاة الأمة التي يصاحب حزنها الناي الذي يختصر رمز الحزن والأسى.
يا كل من كفنتهُم بيدي وحَرِّ قصائدي بين البيوت ْ.).
يا كلَّ من شربوا هنا دمع الثرى..والرزءُ قوتْ
تعبت خطايَ ..ورغم أوجاعي أتيتْ
كي أستعيدَ الشمسَ من حضنِ الأفولْ
يا كل أحبابي الذين هنا امتطوا متن الرحيلْ
عبثًا ألوِّحُ للنوارس وابتسامات الحقولْ
عبثا أفـرُّ كما الزهور من الذبول إلى الذبولْ
عبثا أعيد السنبلات بسحرها بين الطُّلولْ)
تخاطب بلغة الأم التي فقدت على مر العصور رجالا وتلمح إلى الشهداء والمضحين من أجل كبريائها ورسموا ملامح الحضارة وجعلوا منها ملكة عليها ..وهي خلف القضبان تلوّح لأطيافهم وهو نوارس ضفاف هيبتها وحراس سنابل مكارمها لكن التلويح لا يثمر إلا باليأس والقنوط.
تعِبَ التعبْ..)
يا جذوةً بالقلبِ من عمر الأحبةِ تحتطبْ
تعبَ السفرْ..
ملّتْ مراكبُـنا شراعًا قـُــدَّ من وجع البشرْ
كم لا.. ولا.. حُبلى بصدري تنتظرْ.. !!
كم لا ..ولا ..بين المساءاتِ الحزينةِ..
ترتدي ثوب الحذرْ
تعبتْ جراحي من نزيفٍ صامتٍ
بين المقاصلِ و الحصونْ
وأنا هنا زخَّاتُ صبحٍ هاربٍ خوفَ العيونْ
والدربُ جمرُ الغدر تنتعل الخطى ..يا نهرَ دجلة والفراتْ
زعموا بأنّا الخائنونَ مدى الحياةْ
زعموا بأنَّا القابعونَ مع الرفاتْ
وأنا الغريبةُ كم يُبعثرني المحالْ
أَوَكلما وقّعتُ خارطةَ الطريقِ على الرمالْ
كي يستدل بها هنالك نبضُ قلبي المنكسِرْ)
تصوير رائع للقيود التي تصفد الأحلام والتطلّع إليها وكيف أن كلمة (لا) وحدها كافية لإنهاء مصير من يهتف بها ..وهذا الكبت في قول لا لمن يستحقها يحدث طوفانا من النزيف والصمت على الظلم لا يحتمله الأحرار ..ولعل أخطر ما في الأمر كله هو تنسيب الوطني الغيور بالخيانة لمجرد قوله (لا)
(هبَّ الظلامُ مبعثرا ريحَ القطيعةِ بالدروبِ لتنمحي
خلفي المعالمُ والأثرْ
كي لا أعودَ إلى الأحبةِ بالسنابلِ والمطرْ
فإلى متى هذا الحصارْ..؟
وإلى متى يبقى يُبعثرنا الدمارْ..؟
وإلى متى تبقى تغربنا الحدود ْ؟
والنار تأكلُني هشيمًا والأحبةُ ينزفون كما الورودْ
والمدلجونَ الحالمونَ هنا بشتـْلاتِ الرغيفْ
عبر الضفاف يلوِّحونَ كما الطيوفْ
وعلى مدى الأبصارِ بالنارِ استوَتْ كلُّ ا لسيوف)
لأجل هذا هب الظلام وعمت التفرقة وكأن ما يحدث ريح هوجاء جاءت لتمحي جميل الأثر والخطوات التي تربطنا بالماضي المشرف
لبس الربيعُ كبلبلٍ وكرَ الغروبْ)
والريح ُكالطوفان بندٌ وقعتهُ يدُ الليالي المظلماتِ مع الهبوبْ
فمتى تهيم زوارقي صوب الجنوبْ..؟!
ومتى سنُخمدُ بيننا هذا اللهيبْ..؟!
ومتى بصوت واحد يشدو العربْ:
إنا هنا إسلامُنا لَهـْو النسبْ..
لاشيء يرجعُ عزنا إلا التكاتفُ والغَضبْ..؟)
هنا بيت القصيد والبلسم الشافي لداء الصمت العربي .. فأننا مهما اختلفت بنا السبل والأهواء فحسبنا الإسلام منهجا للتكاتف وبدونه لن يكون ..هو الذي يخمد نيران الفتن لو كنا نعلم
يا قصةً بالدرب تكتبُها الدماءْ)
كل المطاراتِ التي دوّنتُها سِرًّا على صدر الهويةِ
قبل أن يغفو الضياءْ
ذابت كصبح بين أهوالِ المساءْ
واليمُّ يعبث بالغريبةِ في مهباتِ الشقاءْ
مذ أرهقتْني رحلتي ..
وقرأتـُـني رقمًا على خط العبورْ
يرميه سهمًا للسُّرى قوسُ الهجيرْ
دعني أودِّعُ موطني يا أيها القناصُ أو أسقي دمائيَ للغديرْ
دعني أوقِّعُ بعضَ أسراري هنا...
فلقد دنا يوم المصيرْ
ومضى السفين مضرَّجا للبحر يحكي كلَّ أوجاع الدهورْ
عبثا أحاول أن أقومْ
والذكريات توَسدُ القلب المعنىَّ بالهمومْ
والليل يا ذا الليل كم قد يستبيح على الملاَ ..
جرحَ السقيمْ)
تلويحات وتلميحات لما يكابده العربي المنكوب في محطات الحياة كرقم مهمل بين الأرقام الهاربة من جدول الحساب ..وكلها عبث في عبث لأن الإهمال يحيط بها من كل جانب..وهي إشارات غاية في الذكاء والأداء المتقن في سرد إيحائي تجعل الصورة أكثر وضوحا للمتلقي.
(عبثا أحاول أن أُلوّح للربى خلفَ العُبابْ
والكف أوهنها الصقيعُ كما الخطى
والقلبُ أضناه العذابْ
والروح تصرخُ بالمدى
أين الأحبةُ و الصحابْ..؟
من ذا الذي قد يفهمُ صوتَ الحمام المشتكي
فوق القبابْ؟
من ذا الذي قد يحتسي كأس المنافي بين أهوال الضبابْ..؟
من ذا الذي قد يمسحُ الدَّمع الغريب إذا هنا ..
حنَّ الترابُ إلى الترابْ..؟
صور دالة على غربة الروح ووحدتها تجتر من التعاسة والأسى ما شاء لها بحثا عن من يحن على شقيقه أوما يحن التراب إلى التراب فكأن التراب لم يعد بمقدوره جمع البشر في قالب إنساني موحد.
(ظمئت خطاي إلى الرجوع ْ
إذ لا دليل هنا بدربي غير غصاتِ الدموعْ
فمتى أعود مع السلام إلى النجودْ
وقد استباحوا رغم أناتي دمي
وعلى بقايا معصمي..
قد وقعوا اسم القضيةِ بالحديدْ
يا كلَّ أوجاعي التي ما إن هنا خبأتهُا ..
حتى هنالك للمدى فاضتْ بها كأسُ القصيدْ
عبثا أحاول أن توسدني الوعودْ
وإلى المدائن صدّني وهن ٌ مُسجى بالقيودْ
من ذا الذي قد يفهم القلب المُعنّى ما يريدْ
من ذا الذي يُنسي السواقي والحدودْ
وطني الذبيحُ من الوريدِ إلى الوريد)
يبدو أن الرجوع إلى الحياة حلم كل ما ينازعه الموت أو يلمّ به ما يفسد عليه الحياة .. ولكن هيهات لا رجوع وقد سدت الدروب وكأنه قضاء مبرم بأن لا عودة رغم أن الخطأ يستدعي العودة للبدء من جديد.
إني هنا..
والعمرُ عهدٌ صاخبٌ أودعتُه..
جمرا بأنفاس الثرى كي يشتعلْ
ولسوف أبقى ثورة بين الربى..
يا بدر أوطاني إذا لم تكتملْ
إني هنا ..
ياقصةً قبل النهايات ارتدتْ ثوب الخلودْ
ما ضرَّني جرحي القديم وإنما..
ما سطرتهُ مواجعا ..
أيدي الشهود
وتختتم كما بدأت بأن وجودها حتم .. أنا أتعذب إذن أنا موجود ْ ووجودي يعني أنني سأظل أحلم حتى بالمستحيل فالأمل والطموح هما عناوين الحياة وأن الجرح سوف يتقادم وينسى إذا تداوى وتعافى ..
القصيدة رسالة إلى الحاضر كما هي رسالة للمستقبل ..أحيي شاعرتنا العروبية المسلمة على نص تستحق عليه الثناء فهي مثال للأدب الملتزم المضرج بهم الأمة والوطن الكبير. وأعتذر لها عن قراءتي السريعة والبسيطة لنص كبير قدير مع المحبة والتقدير
سعد السعد..بغداد