قراءة في قصيدة ( إقرار للشاعرة : عواطف عبداللطيف)
قرأت نصوصا قليلة لشاعرة القصيدة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة وهنا في النبع، ولا أنكر أني تطفلت على ركنها الخاص (همسات وردة) فوقفت على سيدة مكبلة بالحزن والأسى ، تحاصرها ذكرياتٌ طاحنة في مخيلتها ،تركت الكثير الكثير على تكوينها الشاعري ومخزونها الفكري. فهي تجسد حزنا يمتزج الحبيب فيه بالوطن والعكس أيضا ، والحديث يطول عن وصف مثل تلك الحالات التي تأسر الشواعر أكثر من الشعراء ..
ولكن حين قرأت هذا النص حاولت عدم تنسيبه إليها لأنّ فيه خروج مباشر عن بوتقتها المعروفة ، ولكنني حين تعمقت في قراءة النص وجدتني على غير الصواب .. فالمفردة التي كتبت بها هذا النص نفس المفردات التي كتبت بها نصوصها الأخرى.
(إقرار) هذا هو عنوان قصيدتها ، اختارت بحر الكامل مركبا لحرفها ورسولا لمشاعرها ، لأنه يستوعب هذه التنهيدة وهذا التثاؤب بعد طول نعاس .. فكلمة إقرار هي نفس كلمة اعتراف لماذا لم تختر كلمة اعتراف التي هي أكثر ليونة وشمولا بالنص لو جاز التعبير..ولأنها شخصية حازمة ورسمية أكثر من كونها شاعرة فلذلك لم تختر كلمة اعتراف الكلمة الشفافة التي تدل على المباشرة خلافا للمتعارف من شخصيتها الجادة الملتزمة ..
والإقرار أيضا تعني في المصطلحات القانونية بأنه يقع تحت تأثير اضطراري ليكون مقرا به .. وكذلك لا يكون الإقرار إلا بأمر لا نتطوع في الاعتراف به ..فكأنها مرغمة على الاعتراف وهذا شأن داخلي بين الشاعرة ونفسها
شيء يعيث بداخلي يجتاحي
يبغي الوصالَ مزلزلاً أفكاري
أهو الحبّ للحبيب ،أم هو الشوق والحنين للوطن..؟ وهو شيء غير عادي ولو كان عاديا لما زلزل أفكارها ..ويطالبها بعنف للوصال
لالا تقل إني نسيتكِ... من تكوني؟
قاصداً ، في قسوة ، إنكاري
عتاب مبطن يلفه الغموض وكأنها تتوجس الإنكار من الطرف الثاني ، وهذا يغير الكثير بعد الزلزال
ما عدت تفهمني وتسمع لوعتي
لحن العذاب ملازمٌ أوتاري
قد عذبتني غربتي وصراحتي
إذ جففت برياحها أنهاري
والحق قد ملَّ الحكاية كلَّها
ليخاف وردي الغدرَ من صباري
والغيم يعبث في المدى برعوده
فتفرُّ من أعشاشِها .. أطياري
والظلم يكبر والظلامِ على المدى
متوغلاً في غفلتي.. لدماري
صور رائعة متتالية لحالتها بعيدة عن الاهتمام وعد فهم الحبيب وتفهمه لظروفها القاهرة وكأنها محاصرة من جميع الجهات تهاجرها طيورها ويتوغل الظلام في عزلتها
في الصدر قلب منهكٌ سئم النوى
والشوق ضجَّ محاولاً إنذاري
والصـدُّ نامَ بثقلِـهِ في خافقي
كالغيم يُنزِلُ ، من لظىً ، أمطاري
هنا تبعث رسالتها التي تودّ الإقرار بها رغما عنها فنذيرها الشوق ومن كالشوق حين يتشبث بالقلب
راعيت جاري مُكرِماً لكنه
قد ضاق ذرعاً من صدى إيثاري
ويلفهم صمت رهيب عندما
أصداء صوتي طالبت للثارٍ
والبعض يختزل الحياة بجولة ٍ
جرّت معاولُ حقدَهم آثاري
فتعطلت أبواق حسي عندما
هنا تتصفح حالة المناخ المحيط بها والأجواء المشحونة والأمور التي تعرقل اقرارها من معاول الحقد التي تنتهش الأجواء وكأنها تقول رغم صعوبة الوضع لكنني جثتك بهذا الإقرار
يا من مَلكتَ مشاعري وملكتني
عتبي عليك اليوم في أشعاري
هنا تسميه دون كل العالمين لعله الوطن (العراق) يستحق أن يكون حبيبا لكل الرجال والنساء .. إذن هو العتاب أولا ولكن لمن للحبيب الحي الذي جفاها
في الحلم قد تاهت بحوري كلها
وبداخلي نوْءٌ علا إعصاري
حرفي يئنُّ وكلما عصف الزمانُ
غزا أعالي الموجِ في إصرارِ
أمسيت أستجدي اللقاءَ من النّوى
وجروح قلبي مهّدتْ لأواري
تحلم به ويتلاطم حبه كالموج عند اشتداد الأعاصير ..حتى باتت تستجدي اللقاء ولو في الحلم حيث تقول أمسيت ولم تقل أصبحت
فكم اشتهيت الدِّفء قربك عندما
في صمت روحي تختفي أسراري
سامرت صوتك عندما جنَّ الدجى
بأنين آه الشوق في أوتاري
ورسمت فوق الخد بسمةَ عاجزٍ
فتقلبت في داخلي أطواري
وغرقت في عمق البحار لأرتوي
من خصب أرضك جامعاً لنثاري
فلبست حسك عندماراودتني
وأهيم فيك بأدمعي وأُواري
كل أفعالها ماضية متحركة(اشتهيت، سامرت،رسمت، غرقت ) وكأنها حاضرة ومضارعة لملازمتها
إني أحبك نغمةً أشدو بها
رغم المشيب مدوناً إقراري
هذا هو بيت الإقرار .. والخيط المؤدي إلى مكامنها المضمرة والمستترة وتقول رغم المشيب وكأن المشيب يمنعنا من الإقرار بالحق
من وحي أسمك أستمد عزيمتي
لتكون لي قمراً يُضيءُ مداري
وهل العزيمة تستمد إلا من الحبيب المرجو وصاله
يا أيها الأمل المغمس بالضيا
في مد بحرك هاجسي وفخاري
ولا يكون الأمل إلا في الحبيب المعتق بالضيا
وعلى ضفافك أستمدُّ إرادتي
لأزيد خطوي مُكملاً ..مشواري
في فيض حبك سوف أرفع هامتي
وبفضل عزك تهتدي أفكاري
نعم هو الوطن سيدتي نرفع بحبه هاماتنا وبفضل عزته تهتدي الأفكار..
ولكن هل حبّ الوطن قابل للإنكار ، حتى يكون الاعتراف به بالإقرار ؟؟
نص ماتع رائع بكل المقاييس وإقرار بديع ورائع بلغة الشعر المحببة ..هذا النص بلا شك راق رقي قلم شاعرته وسام سموها
دمت للشعر نبراسا وللخلق الكريم ملاذا وعذرا على تطفلي على نصك المبهر