من الأخلاق التي حبَّبها إلينا الحقُّ تبارك وتعالى في القرآن، وأمرنا بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: الصبرُ وكظْمُ الغيظ، على ما قد يحصل لك من أذىً من أخيك المسلم، وستر الزَّلة التي قد تقع من أخيك، فما من إنسانٍ إلا وله كبوةٌ أو عَثْرَة، والكريمُ يُحِبُّ أن تُقَالَ عثرتُه، ولذلك فهو يُقيل عثراتِ الناس، ولا يتذرع بخطإٍ هنا أو هناك، لكي يسيء إلى أخيه المسلم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضى الله عنه : «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»( ).
والكرامُ من الناس ينبغي أن تُقالَ عثراتُهم، لأنَّ أفاضلَ الناس تقلُّ الأخطاءُ والزلَّات التي يقعون فيها، ومن واجب المسلم ألا يحفظَ هذه الزّلَّات على إخوانه، بل إذا حصلت يتغاضى عنها وكأنه لم يَرَها، فإذا كانت تمسه بأذىً فليكظم غيظَه، فإن الله قد جعل كظم الغيظ من أسباب استحقاق الجنة، فقال سبحانه ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)) (آل عمران: 133-134) والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمررضي الله عنهم: «مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ»( ).
ولما كان الغضب من طبع الإنسان وكانت مغالبتُه أمراً يحتاج إلى همةٍ وعزيمةٍ وإلى قلبٍ قوي؛ فقد بين صلى الله عليه وسلم أن الشديد ليس هو القويَّ الذي يغلبُ الرجالَ ويردُّ الإساءةَ بالإساءة، لكنَّ الشديدَ هو صاحبُ القلب القويِّ، الذي يتحمَّلُ الأذى ويتسع صدره ويصبر، ويكظم غيظه لعل الله تبارك وتعالى يغفر زَلَّتَه، فقالصلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه : «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»( )
يعني ليس الشديد الذي يغلب الرجال، ولكن الشديد الذي إذا أُسيء إليه ملك نفسه من الغضب.
إن أفاضلَ الناس وأصحابَ المعادن النفيسة من الخلق يتحملون ويصبرون، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابهرضي الله عنهم يفعلون، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤْذَى أمام الناس بصورةٍ غير مقبولة، حتى إن بعض الصحابة كان يطلب منه أن يأمره بقتل الذي آذاه، فيصبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصفح. أَخرج مسلم من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضى الله عنه قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ -وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اعْدِلْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ! قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ». فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضى الله عنه : يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِى فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. فيكظم النبي صلى الله عليه وسلم غيظه ويقول: «دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ...»( )
يا سبحان الله! ما هذا القلب الذي يسمع هذا الأذى أمام جموع من أصحابه الذين لو أمرهم لقتلوه، ثم يصبر ويصفح؟!
إنه القلب الكبير والصدرالذي اتسع لكل الناس، واحتمل أذاهم وزلاتهم، ولهذا أحبوه، حتى عبد الله بن أُبَيّ بن سلول الذي كثر إيذاؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ حدَّ النَّيْلِ من عِرضه صلى الله عليه وسلم وترويج قَالة السوء على أشرف وأطهر الأعراض في هذه الحياة، على السيدة عائشة رضي الله عنها، وتألم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك غاية التألم؛ لم يشأ صلى الله عليه وسلم أن يرد تلك الإساءة الصادرة من ابن أُبَيٍّ بمثلها، إنما صبر وكظم غيظه وعفا.
وعند ما قال ابن أُبَيٍّ ((لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)) عفا عنه، وأحسن صحبته، فقد روى ابن إسحاق أَنّ عَبْدَ اللهِ بنَ عبد الله بن أُبَيٍّ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنّهُ بَلَغَنِي أَنّك تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ فِيمَا بَلَغَك عَنْهُ، فَإِنْ كُنْت لَا بُدّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأَنَا أَحْمِلُ إلَيْك رَأْسَهُ، فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرّ بِوَالِدِهِ مِنّي، وَإِنّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلَهُ فَأَقْتُلَ رَجُلًا مُؤْمِنًا بِكَافِرِ، فَأَدْخُلَ النّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ نَتَرَفّقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا»( ).
هذا هو الصدر الكبير العظيم الذي يجب أن نتأسى به، والذي من شأنه أن يحفظ على الناس محبتهم، ومودتهم، وعلى المجتمع ترابطه وتماسكه.
يجب أن يكون هذا الخلق (الصبر وكظم الغيظ) سائدًا على وجه الخصوص فيما بين الإخوان في الله، وفيما بين الصالحين، ممن لا تكثر زلاتُهم ولا تُعْرَف عنهم الفواحش، ولا يعرف عنهم طول اللسان في الناس، ولا كثرة الأذى للخلق، لأن أمثال هؤلاء إذا وقع منهم الخطأ فهو قد وقع سهواً، أو تحت ضغط معين، وليس دينُهم رقيقاً حتى يقعوا في هذا الخطأ، ولهذا إذا وقع أمثال هؤلاء في الخطأ فيجب أن تُقال عثراتُهم، وأن تُغْفَر زلاتُهم، ويجب أن يُصبَر عليهم حتى يعودوا ويفيئوا، فيعتذروا عما وقع منهم، ويُقْبَل منهم الاعتذار.
أما لوأنك كلما أساء إليك أحدٌ قطعتَ ما بينك وبينه، وكلما وقعتْ زلةٌ من مسلم قاطعتَه بها، فما أظن أن سيبقى لك من تصاحبه.
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئتَ وأي الناس تصفو مشاربُه
أسأل الله أن يحفظ قلوبنا متآخية فيه، ومتحابة بجلاله، اللهم احفظ قلوبنا من نزغات الشياطين، اللهم قنا شر أنفسنا التي بين جنوبنا، اللهم قنا وساوس الشيطان، وقنا شر الإنس والجان، واخلع يا رب علينا خلعة الرضوان، وكن لنا بالحق والنصر مؤيدا، اللهم نجنا من عذاب النار، وعافنا من دار الخزي والبوار، وأدخلنا برحمتك الجنة دار القرار، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.