سافرت في القطار قبل ايام الى مدينة قريبة عن محل سكناي ، لزيارة صديق. جلست في المكان الذي سبق ان حجزته. حياني رجل ، واخذ مكانه في المقعد الذي بجانبي. حسب تقديري انه في العقد الثالث من عمره ، وقسمات وجهه تدل انه يصارع مشكلة قد عصت عليه حلها ، بحيث اصبحت سرا من اسراره. بكلمة منه وأخرى مني ، فتحنا حديثا مع بعضنا ، دون ان يكون احدنا متطفلا على الاخر. لا اعرف هل لطافته دفعته ان يكلمني ، او فضولي دفعني ان اعرف عنه شيئا. كان مريحا في كلامه ، هادئا في حركاته ، خبيرا في مراعاة مشاعر الغير. تحاشيت ابان حديثي معه ان اتطرق لأمور ، وجدتها قد نحتت في قلبه الما.لحسن حظي انه لم يكن ثرثارا مقلقا ، ولا هو حجرا أصما ، بحيث يجلب الملل ، بل كان لطيفا ، وزميل سفرمريح. بعد وقت قصير ، اخرج من حقيبته تفاحة ، وسكينا ، وقدم بكل لطف ، قطعة منها ، على غير عادة الاوربيين ، فشكرته ، وصرنا نتحدث مع بعضنا كزملاء سفر ، وكل منا كان يراعي مشاعر الاخر ، و احواله النفسية بكل حذر ، خشية من تصرف قد يفسد جو حديثنا. ارتحت منه ، وارتاح مني ، واندمجنا في الحديث ، كما اندمجنا في الافكار ، وكان يعاملني بطريقة حديثه معي ، كما يعامل الاب ابنه ، وكنت اعامله ، كما يعامل الابن جده ، مع اني اكبره عمرا. من خلال الحديث ، وتصرفاته ، استنتجت انه ذو خبرة ، بعلم التربية ، و ظننت انه خبير تربوي. بادرني بسؤاله : هل انك معالج نفساني ؟ اجبته ما الذي دعاك الى هذا الاعتقاد ؟ فقال طريقة تصرفك معي. وجدت الوقت مناسبا ، و سألته متجاهلا سؤاله ، أانت خبير تربوي ؟ فأجابني ، ماالذي جعلك تظن باني خبير تربوي ؟ !! اجبته حسن تصرفك معي ، وطريقتها. اذ كنت تراعي مشاعري ، وتتجاوب معها ، مما يدل على خبرتك ، ومهارتك في تكوين علاقات طيبة مع الاخرين. واستطعت بتصرفك ان تكسب ودي كزميل سفر. وهذا جعلني اشعر انني مع خبير تربوي و انسان اجتماعي ناجح. و سألته ، امختص بعلم النفس التربوي ؟ اجابني انا معالج نفساني ، مختص بأمراض الكلاب النفسية. اجبته مستغربا ومتعجبا ، لأول مرة اسمع بهذاالفرع ، ولولا جديتك في الحديث ، لكنت اظنك مازحا. استغرب صاحبي قائلا : بجد !!!!!!!!!!!!!!!!! الم تسمع بهذا الفرع المهم؟ - اعذرني يا اخي ، بجد لم اسمع بهذا الفرع الا الان منك. فأعطاني عنوانه ، ودعاني لزيارته في عيادته. وعدته اني سازوره بكل شوق. رجعت من سفري وقول المعالج النفسي للكلاب يشغل فكرى باستغراب. اتصلت به هاتفيا ، ورحب بزيارتي له ، وكان يتردد في خاطري هذا السؤال : كيف سيعالج صاحبي الكلاب المصابين بعقد نفسية ؟ وما هي هذه العقد ، في الوقت الذي نحتار ، وفي اغلب الاحيان مع انسان مثلنا؟ وصلت عيادته ، واستقبلني المعالج النفسي للكلاب بحرارة. شاهدت عنده في غرفة الانتظار ، رجلان وثلاث نساء ، مع كل منهم كلب مريض نفسيا ، فيهم من فقد كلبه صبره ، وكان ينبح ، وفيهم الهادئ الكئيب. اصطحبني الى غرفته ، وجلست لأشاهد الكلب المريض نفسيا ، ولأطلع على نوع العقدة ، وطريقة علاجه لها. سألته : اماترى في جلوسي خطورة ؟ اخشى ان الكلب يفقد اعصابه ويعظني !! ابتسم قائلا ، لا تخف انها لاتعظ ، وليست كلاب وحشية .
الحالة الاولى
قدمت له سكرتيرته ، المريض الاول. دخلت امراة متوسطة العمر ، ومعها كلبها. رحب صاحبي بها ، وجلست. سألها عن المشكلة فأجابته: الكلب غالبا ما يعصب (كما يقولون اهل الخليج) ههههه أي عصبي بلهجتنا ، وعنيد ، في تصرفاته ، مع اني اعامله بلطف ، وأجامله وأراعي شعوره. غير اني وجدته يزداد سوء ، بحيث وصل الامر به ، انه لايطيعني نهائيا ، وعرفت انذاك انه مريض نفسيا ، والا ما سبب ذلك ؟ فحص صاحبنا الكلب ، وتأكد من سلامة صحته ، وقوة نظره ، وطلب من المرأة ان تتفضل معه الى حديقة الدار ، وطبعا خرجت معهما وأنا في حالة عجب واستغراب !!!!!!!!!!!!!! لأرى ما سيحدث. في حديقة البيت ، طلب منها المعالج ، ان تريه كيف تتعامل مع كلبها ، كيف تضع الحلقة في رقبته ، ان احتاجت ان تقوده ، وكيف تفرض اوامرها عليه لينفذها. اخذت المرأة ترينا كيف تتصرف معه . حقا كان تصرفها في غاية اللطف. طلبت منه بكل لطف ان تضع الحلقة في رقبته ، الا ان الكلب ادار ظهره في الحال اليها ، ليريها انه لا يرغب. وحاولت ان تقوده ليتبعها فرفض ، واضطرت ان تحمله بيديها كالطفل. المعالج النفساني كان يلاحظ كل حركاتها مع الكلب ، ورد فعل الكلب نفسه. بعد ان انتهت ، طلب منها الخبير النفساني ان تجلس على الكرسي ، وتلاحظ تصرفه هومع الكلب. تقدم المعالج من الكلب ، وأدار ظهره اليه ، ومد له يده بلطف ، و اذا بالكلب ينقاد له و كأنه سحره ، عجيب يا ربي ههههههههههههههههههههههههه سار المعالج ، ولم نجد الا والكلب يتبعه وكأنه هو مربيه الحقيقي !!!!!!!! والله اندهشت من الامر هههه وصار الخبير يشرح المشكلة للمرأة قائلا:
ان كلبك يعود الى عائلة عريقة ، ومشهورة وسماها ، ( نسيت للأسف اسم عائلته) ومصدر هذه العائلة ، مدينة دريزدن الالمانية. هذه العائلة الاصيلة ، تتميز بنوع من عزة النفس ، و الاباء ، و ابناء هذه العائلة ، يملكون حساسية معينة ، ولا يطيعوا الاوامر التي تجرح كرامتهم. فمقابلتك له وجها لوجه ، يجعل الكلب يشعر باهانة ، أي كأنك تأمريه وتذليه ، فهو مع ضعفه كحيوان ، تأبى كرامته ان يكون لك عبدا. لذا اديري ظهرك اليه ، ومدي يدك اليه بلطف ، وستعيدي ثقته بك ، وأرجو ان تتفضلي في الاسبوع القادم ، لأنه يحتاج الى اربع جلسات اخرى ، ليعود الى حالته الطبيعية. كنت اصغي لحديثه بكل اندهاش. رجعنا الى غرفته وأنا في حيرة وتعجب.
الحالة الثانية
دخل رجل مع كلب كبير ، رحب به كما هو الحال مع غيره ، وصار يشرح له مشكلة كلبه: كلبه مصاب بمرض الخوف من السيارة ،قال:
احاول ان اصحبه معي في السيارة ، ولمجرد يقترب منها ، اجد جسمه يرتجف خوفا ، ويأبى بشدة ركوب السيارة. عرفت انه مريض نفسيا ، وسأكون سعيدا بشفائه من هذه العقدة.
فحص صاحبي الكلب كما يفحص الطبيب الانسان ، وتأكد من سلامة جسده ، كما هو الحال مع غيره وقال له:
ان هذا الكلب من اصل افغاني ، وتميل عائلته للتحرر والهواء الطلق ، وأنت ربيته بطريقة تناقض سلوكيته. وطلب المعالج ان يريه الحدث ليرى بنفسه انفعالات الكلب. خرجنا نحن الثلاثة والكلب معنا الى السيارة ، ليرى المعالج بنفسه انفعالات الكلب. وبالفعل حاول المعالج بكل امكانياته ، وبكل لطف ان يصعده للسيارة ، فوجدنا الكلب يرتجف خوفا ، وصار يئن و يخرج صوتا وكأنه طفل خائف ، يتوسل بالطبيب ان يبعده عنها !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! فقال صاحبي الطبيب النفساني : انه يحتاج الى جلستين في الاسبوع ، ويستغرق علاجه وقتا طويلا ، حتى يتخلص من هذه العقدة ، وشرح له كيف يجب ان يتصرف معه وكيف يعامله !!!!!!!! وبهذه المناسبة علينا ان لا نعجب من ملك المانيا (( فردريخ الكبير ))كان قد كتب في وصيته ، ان يعتنى بكلابه حتى يوافيهم الاجل ، ويجب ان تدفن كلابه بجانبه. ومن يزر مدينة بوتسدام المجاورة لبرلين ( 10 دقائق في القطار) يجد قبر الملك وبجانبه قبور كلابه. شاهدتها بعيني وكنت في حينها شديد الاستغراب.
الحالة الثالثة
دخل شاب ، لا يزيد عمره عن 25 سنة ، ومعه كلب شبيه بالذئب ، يبان عليه الحيوية والنشاط ، سأله الطبيب عن مشكلته فأجاب الشاب: انه مصاب بعقدة نفسية ، بحيث هو نفسه ، واقصد صاحبه قد تعقد منها . مشكلته انه يمشي ويقف ، أي لا يستمر في سيره كباقي الكلاب. نقدم له الطعام ، ويلحس حافة الصحن. ومن ثم يأتي الى الطعام داخل الصحن ، يحذر ويقف اذا صادف حفرة ، او حجرا في طريقه . وقال ، ان كنت بعيدا عنه ، والمح له مثلا بعصا ، او كرة لألعب معه ، فلا يعيرني اهتماما. فحصه اخونا الطبيب وقال انه سليم نفسيا ، ولكنه مصاب بقصر البصر ، ويحتاج الى عوينات أي عدسات تركب في عينيه ، ولكنه يكلف غاليا ، فأجابه الشاب وبكل ثقة : لايهم ، اضحي بكل اموالي من اجله!! لم يسمح لي الوقت ان اشاهد حالات اخرى ، فودعت صاحبي شاكرا ، وأنا في اوج العجب. عرفت بعد ذلك ان في المانيا خبراء في الامراض النفسية للخيول ، والبقر ، واطلعت بعدها على امور كنت حقا غافلا عنها ، بل واجهلها ويا للأسف. وفي برلين عاصمة المانيا ، توجد مقبرة كبيرة ، ويزوروها اصحابها ، ويبكون على كلابهم ، ازددت لذلك عجبا ، بحيث لا تشعر انها قبور الكلاب ، بل قبور بشر. والشيء الاخر الذي يدعو الى العجب يوجد في برلين ، وطبعا مدن اخرى في المانيا فنادق خاصة للكلاب ، وتكلف غاليا. وتوجد مدارس للكلاب ، لها مكانتها ، يدرس فيها الكلب امور عامة ، ومن ثم يختص ، اما بالشؤون المنزلية ، أي مع ربة البيت ، ترسله ليشتري لها حاجة معينة ، أي تكتب ما تحتاجه ، وتضع الورقة والنقود في سلة ، وتعلقها في رقبته ، ويذهب الكلب الى بقال ، سبق وان دلته عليه ، ويجلب لها حاجياتها بكل امان. وهناك من يختص في الطب ، فعمله مثلا يقود صاحبه ان كان اعمى ، او يشترك في الاسعافات في حالة الزلازل ، وأمور اخرى.تدهش من هم من امثالي. والاختصاص الثالث في الجرائم ، ككلاب الشرطة ، وطبعا فروعها متعددة. ويحصل الكلب على دبلوم ، وطبعا يكون له قيمة كبيرة ، ومكانة محترمة. ورأيت محلات حلاقة ، وحمامات خاصة للكلاب. وحقا كدت ان لا اصدق نفسي والملايين من الجنس البشري تشكوا امراضا نفسية ، ولا احد يهتم بهم ، بل لا يحلم احدهم ان يقابل معالجا نفسيا يوما ما . ملايين من الناس تصارع الوان العقد ، دون ان يدري بها احد ، ناهيك عن انشغال الملايين بسد رمقهم بلقمة خبز لا اكثر. لست معارضا لمعالجة الكلاب ، او الخيل ، او البقر ، من عقدها النفسية ، ولكني اقول : علينا ان لا نحرم البشر منها. أخوكم ابن العراق الجريح: صلاح الدين سلطان
يتبع
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 02-20-2014 في 11:48 PM.