بقيت فترة طويلة موزع العاطفة بين حب الكلاب وكراهيتها ، فالنبي قد أوصى بها وتحدث عن رجل دخل الجنة لأنه ملأ خفه وسقى كلب يخرج لسانه من شدة الظمأ . لكن خالتي حسنية التي يتاجر زوجها في الحشيش بعلم الحكومة صرخت في عندما رأتني أحمل جروا صغيرا ، وقالت لي أن الكلاب نجسة ، ولم تكتف بذلك بل جرستني أمام حشد من النساء . ماحدث من ذلك كان أصعب فعندما تجمعت النساء ككل جمعة لتناول طعام الإفطار من العيش المخبوز حالا من الفرن مع أطباق البصارة نادتني أمي كي أحضر " التخديعة " وهو بصل محمر في نار هادئة . فلما ذهبت وأحضرت ما طلب مني أشاحت خالتي يدها وهمهمت : " لن نأكل من يدك. بها بقايا من نجاسة كلاب " .
فتذكرت النسوة ما سبق من حكايتي مع الكلب الذي حملته منذ أسبوع وامتنعن عن وضع " التخديعة " ، فبارت ، وتوعدتني أمي بالضرب ، وهو ما صارت تفعله بكثرة منذ مات أبي ، وقد نسيت ذلك في زحمة مشاويرها أو هي فوتت الأمر بمزاجها.
كل ذلك كوم ، وما رأيته حين أرسلتني أمي بالملابس لجارتنا سعدية كوم آخر فقد ضبطت ابنها يعتلي الكلب ويركبه كأنه حمار ، والكلب المسكين يهوهو ، ويحاول أن ينفضه عن ظهره فيقوم من جديد ، ويعاود ركبه. كان أحدهم قد ربط الكلب في قائم خشبي بالباب ، فتسللت وفككت الحبل فانفلت موقعا الولد من على ظهره .
رآني أبتعد فوشى بي وتوقعت الضرب المبرح من أمي فاختبأت في " الشخشيخة " حتى هبط الليل وتسحبت من زيق الباب وصعدت السرير الحديدي العالي . حرصت على ألا أهز الشخاليل في صعودي ولما دخلت لعقابي كنت أغط في شخير مصنوع ، فضربتني بقوة من فوق اللحاف ، ولم يكن أمامي إلا تصنع الفزع والبكاء لثلاث ليال وسط أعز نومة ، وهذا أتى بفائدة إذ جاءت الحاجة تفيدة السمبوسكاني جارتنا بكيلو موز وكيلوجرام برتقال بصرة . وضعت الماء المقروء عليه في "طاسة الخضة " . ولما نزلت صرخت أمي في وجهي : " انبسطت يا وش الفقر" .
ظلت الجارة تخيط ثياب أولادها عندنا لموسم كامل على حس الموز والبرتقال وطاسة الخضة التي استردتها بعد تمام شفائي.
مصطفى أخي ، كان يركل الكلاب كلما صادفها ، يذهب إليها في أماكن نومها فيجرها من ذيلها فتعترض على ذلك محاولة أن تعضه فيسحب يده بسرعة . يرى الكلب المسكين مطأ طأ الرأس فيخبطه بحذائه المدبب فيعوي .
كان يكبرني ويرى أن قلبي الضعيف هو سر تعاستي . لكنني لم أخبره بسري حيث أنني أصاحب الكلاب فأجدها تنتظرني في العودة . ترضى بأقل شيء ، ولا تخذلني : قطعة عظم مثلا ، بعدها تمسح أجسادها ممتنة ، وتهوهو في سعادة كلما رأتك.
في موسم البطيخ كنت أجلس تحت شجرة منحنية على النيل أقرب الكلب مني وأحدق في العينين. داخل البؤبؤ حزن يزلزل القلب .
قلت هذا لمصطفى فراح لأمي وفضحني : " أبنك يعشق الكلاب. خليه ينام معها تحت الكباري وفوق الجسور وفي الطرقات. خليه؛ فهو يشبههم " .
أول معرفتي بالكلاب حدثت فجأة منذ ثلاثة أعوام . كانت سيارة تمرق أمام بيتنا المطل على شارع جانبي ، دهست عجلات السيارة كلب كان يتمطى وهو يهز جرمه . عوى الكلب فعدوت نحوه . كانت ساقه قد كسرت، والدم ينزف . أخذته بين ذراعيّ وذهبت للممر أسفل البيت. جلست أطببه وأمسح دمه بقطعة قماش كنت قد أعددتها لصنع كرة شراب.
مددته في البدروم المهجور حيث أخبيء البلي ونوى المشمش في الزلع. كنت أعوده وآتي له بشيء يفطر به. أذهب إلى المدرسة ، وحين أرجع أجده ينتظرني ، يقفز لأعلى ويتشمم ملابسي ، فرحا . أشعر به عاجزا عن التعبير عن أحاسيسه.
هل الكلب أخرس؟
هذا ما يدعيه مصطفى ، وأنا أعارضه وأرى أن الكلب يعرف الكلام ويفهم الإيماءات. إنه يحزن ويفرح. يغضب ويتدلل . وهو غير الإنسان في أنه لا يمكنه أن يخفي حبه أو ينكر كراهيته .
بعد أن شفي كنت قد ذهبت لرحلة إلى القاهرة استمرت ثلاثة أيام. لما رجعت وجدته يجري نحوي ويزوم كأنه يبكي . ثم نشب أظفاره في سترتي ومزقها بلا قصد . كان مصطفى عائدا معي فحكى ما حدث لأمي ، وجاء بعصا و ضرب بها الكلب ضربات اوجعته . على الفور تصديت له. تشاجرنا ، وتمكن من إيقاعي على الأرض ولكمني حتى تورمت شفتي السفلى . وجدت الكلب ينظر نحوي في شفقة. كانت الضربات التي تلقاها قبل المشاجرة من مصطفى قد جعلته حذرا . اكتفى بنواح خفيف كأنه يشاركني انكساري. هرول خارج البيت هاربا ، تأكدت أنه لا يريد أن يراني في موقف ضعف . بعد حوالي ساعة خرجت أتفقده وجدته عند ناصية الشارع يقعي ، وهو يلهث كأنه يؤنب ذاته.
أخبرتني أمي أنها المرة الأخيرة التي تسمح فيها بوجود كلب " شوارعي " ثم أن جرحه قد تماثل للشفاء . قلت لها محتجا: " لكنه ما زال يعرج ".
قالت وهي تخبطني بيدها مشمئزة من مصاحبتي الكلاب : " مصيبة تأخذك أنت والكلب" .
هربت من البيت وأخذته معي ، حاولت العثور على مكان آمن. قفزت فوق سور المدرسة ، وضعته في ركن حديقة خلفية أعرفها.
في الصباح اليوم التالي ، بينما نحيي العلم في طابور الصباح ، كان أفراد فريق الموسيقى يضربون بعصيهم الرفيعة على " الأكسلوفونات" . هرول الكلب ناحيتي ولمحته يهز ذيله ومدير المدرسة ينظر نحوه في غضب.
سألني باتهام صريح : " أهو لك ؟"
كذبت : " لم أره سوى الآن" .
نظرت لمصطفى وكنت أخمن أنه سيشي بي ، لكنه فضل أن تكون " العلقة الساخنة " على يد أمي فهي أقسى وأطول في المدة. استغربت أنه لم يخبرها ، في اليوم التالي اختفى الكلب وشملني الحزن .كنت أبكي لأنني لن أعوضه.
قلت لغريب المسلماني الذي أعتبره أعز أصدقائي : " أريد اقتناء كلب ، ووضعه عندكم في مخزن الفحم ".
سأل أباه فوافق ، ولكنه أخبره أن يريه إياه قبل كل شيء ؛ فقد يكون جربانا. أصبح حلمي قادرا على التحقق ، وكان أبوه رجلا طيبا يعطف علي كثيرا لأنه يعرف أنني يتيم مثل النبي محمد. وقد أعطاني مرات عديدة بعض النقود الفضية ، واشترى لي مرة سندويتشا من الفول المدمس .
ظللت أبحث عن كلب ولم يكن هذا سهلا، فكل الكلاب التي أقترب منها كانت تعتقد أنني أضمر لها شرا فتهرب كلما أوشكت على الإمساك بها. هذا ما تعتقده ولم يخبرها أحد أنني نصحت أخي مصطفى مرات ومرات ألا يعذب الكلب.
ليس هناك حل سوى أن أشتري قطعة عظم من أي جزار. لكن لا نقود معي . ذهبت لأحمد العقدة جزار الحي الذي كان والدي يشتري منه لحم العيدين قبل موته : " ممكن وحياة الميتين لك ، تعطيني قطعة عظم" ؟
فتح الرجل فاه مندهشا: " أقطع له يا بني ربع كيلو . يمكن محروم " .
اندفعت نحو دلو به قطع عظم ، انتزعت واحدة: " لست شحاذا. أريد قطعة عظم ، لا أكثر" .
سمح لي بذلك ، ومضيت نحو أماكن تجمعات الكلاب. اخترت هدفي بسهولة ، قرب نافورة مهجورة يتكاثر حولها العشب . رميت قطعة العظم تحت قدميه. في نفس اللحظة انطلقت أسراب الكلاب لتشارك الكلب المقصود في الوليمة. لم أتمكن من انتزاعها من بين أنيابها المسنونة.
لم يعد أمامي سوى أن أذهب لقرية المنية ، فعمدتها هو والد زميلي في سنة سادسة أول ، وله أطيان ومساحات مترامية من الفدادين المزروعة بالأرز ، وعندهم كلاب لا حصر لها لحراسة المنزل والعزبة.
أخذني حسين معه بحجة المذاكرة ، بعد حل واجب الهندسة ، ورسم المثلث متساوي الساقين بالفرجار ، نزلنا الغيط . صفر بفمه فجاء كلب أسود يسعى نحوه . كلب رشيق تبدو عليه سيماء الذكاء . صفر صفارتين ، فوثب الكلب المدرب مرتكزا بساقيه الأماميتين على المنضدة. عددت أربعة مخالب في كل رجل . تحسس بيده شعره الكثيف ، فلما حاولت ذلك نفر مني ،وكاد يفتك بي إلا أنه بتلويحة من صاحبي حسين أذعن لأمره وتخلى عن عدائه.
كلب حسين أصبح يعرفني . ميزته الوحيدة أن مصطفى لا يعرفه ، وهذا معناه أن أمي لن تكتشف المسألة ، كلب اسماه صاحبه " بؤيا " ، له عينان ثملتان ، يتلصص على القطط فيتشاجر معها . يتركنا وينطلق في غزواته ويحضر بصفارة من فم ابن العمدة.
يزر عينيه كلما رآني ، وعادة لا يكون معي غير حقيبتي فيلهو بها للحظات ، وهي على عتبة البيت الذي له سور من الغاب الرومي . لو أنني ابن عمدة لكان بمقدوري أن أربي عشرة كلاب مرة واحدة . ففي الحقل متسع لهوهواتها.
بعد أسابيع من الزيارات المتكررة ، وافق حسين على منحي كلبه المفضل " بؤيا" ، وقد تبعني بهدوء . سرت في المقدمة وهو يتبعني بأدب بالغ ، وديسمبر يلوح ببرده فيقفز الكلب قفزات محسوبة ثم يسير خلفي. بدون سابق إنذار ظهرت كلبة عند الناصية ، فوجئت به يقطع طريقها ، يطاردها وما لبث أن اختفى الاثنان. خفت أن ارجع لحسين ابن العمدة فأخبره بما حدث فينهرني . لم أنم ليلتها بل امتنعت عن الطعام وبت مغتما.
في صباح اليوم التالي رآني حسين فضحك ، وهو يراني ممتقع الوجه : " بؤيا رجع لنا ثانية. خذ قطة .. أفضل" .
تململت من البرد وأنا استمع لسخريته ، ولما جاءت حصة التربية الدينية خرجت من الفصل وخرج بعدي لأننا لم نحفظ سورة " الماعون" ، قال لي حسين بمكره : " تفتكر إن النار اللي هتروحها هيكون فيها كلاب " ؟
كان يتحداني ، فقلت له على الفور: " لا أعرف" ؟
سألني غريب عن سبب تأخري في إحضار كلب بعد موافقة والده الطيب ، فقلت له : " يوجد كلاب زينة لا تهرب من أصحابها وهي غالية الثمن" .
هرش رأسه وربت على كتفي : " سأتصرف " .
يوم الثاني من فبراير جاء بعد العصر بكلب له شعر لطيف ، هاديء ومؤدب كطفل غرمن عائلة محترمة ، وقورة . قال لي : " هو هدية لك. لكنه لا يمكنه العيش في برد مخزن الفحم" .
ناشدته أن يتركه في بيته وسأمر عليه كل يوم كي أراه. تعددت زياراتي والكلب يبدو عليه العته فهو يهش لكل غريب ولا يسر لمرآي، أنا صاحبه . قلت لغريب: " كلب مدلل . أشعر أنه يصيبني بالغثيان" .
قال هو يقسم بأغلظ الأيمان: " ثمنه خمسون جنيها ".
أجهشت بالبكاء لأن هذا المبلغ لو أعطيته لأمي لاشترت به حصيرة من البردي ، ولسدت ثقوب السقف التي تنشع بالمطر ، ولكستني أنا ومصطفى وأختي آمال.
خرجت من بيته وقد أقسمت ألا أصاحب كلاب الزينة .
في بداية الصيف اشتريت صنارة لصيد السمك، وجلست على حاجز من الصخر أصطاد ما فيه القسمة . كنت أضع السمك الذي اصطاده في جراب صغير له غطاء . أحسست بكلب يلهث ، كان يقترب مني بحرص.
لا أعرف كيف قضى اليوم بجواري وهو يعدو فوق الجسر ثم يعود فأسكب له الماء في حفرة فيرتوي ويعاود لعبه. قلت لنفسي : " اخيرا تحقق حلمي " . كنت استرجع صورة والد غريب الذي كلما رآني تنحنح وسألني عن حال والدتي وأخي مصطفى وأختي آمال ، فأطمأنه ، وقبل أن أتم كلامي يغلق الباب ليهبط على السلم وهو يغالب أزمته الصدرية .
مرق الكلب كالسهم ونحن نقترب من باب مخزن الفحم . على غير العادة وجدت الأبواب موصدة . ليس أمامي سوى الذهاب للمحل في نهاية الشارع الأسفلتي . سيكون غريب واقفا خلف أجولة الفحم بضحكته الحنونة . وجدت المحل مغلقا هو الآخر.
لم يكن يوم جمعة ، هل سافر غريب دون أن يخبرني؟
أسرعت بخطواتي ، والكلب يتبعني ، بين فينة وأخرى يهز ذيله. اقتربت من البيت فوجدت مقاعد القطيفة الزرقاء مصطفة صفين ، فوقها يجلس الرجال بأعين دامعة. عكس المنظر حيرة ضغطت على صدري . ناديت على صاحبي وقلبي ملتاع . نزل غريب من البيت وهو يبكي : " أبي مات" .
كان حزينا وحائرا ومرتبكا . بكيت بدوري وقلبي تأكله الحسرة :" ما تزعلش يا غريب. أنا زيك من سنين. بكرة تتعود" .
تركنا الكلب ومضى يضرب في الحواري الضيقة حتى غاب عن نظري ، ولم يكن بي رغبة لأن أتبعه.