كلما سرت في هذا الشارع يحيرني كثيرا التاريخ الذي يحمله (26 يوليو) مثله مثلتواريخ كثيرة في حياتي لا أعرف مناسبتها!! ولكن يريحني المبني العتيق الرابض عليفوهة الشارع والذي يمتلك ناصيتي شارع 'رمسيس' وهذا الشارع المحير..
أفتش فيذاكرتي عن واقعة معينة أو حدث استطاع أن يخدش جدار الذاكرة ولو بخدش بسيط يترك بهاعلامة ما تميز هذا التاريخ.. لا أجد.. تسلمني هذه الحيرة إليالميزان الكبير الذيينام علي جبين المبني العتيق والذي أري كفته اليسري دائما تميل كثيرا عن اليمنيودائما اري عليها الشيطان يعانق فتاة حسناء يرقصان في هدوء مميت سألت بعض العالمينببواطن الامور في بلدنا عن سر هذه الكفة وسبب هذا الميل.. أجاب بأن الفنان الذي قامبتصميمه يعتقد أن العدالة الحقيقية هي من حق السماء وحدها ونحن بشر، عدالتنا تحتملالصواب والخطأ ومن أجل هذا ترك هذا الميل ليدلل علي قناعته ولكن هذا الكلام لم يدخلقناعتي ولم يغير شيئا مما انتويت فعله، ذلك الذي حرض سلطان النوم علي عدم الاقترابمن منطقة جفوني التي حصنتها ضد قوة هذا الفعل وقوة الفكرة التي دارت بي حتى كدتأهوي.
ظللت ليالي كثيرة يفارق السرير جسدي أفكر في كيفية اختراق هذا المبنيومحاولة تعديل الكفة المائلة التي لم يلحظها أحد سواي.. بعد عناء لم أجد أمامي أيطريق سوي التسلل ليلا وتنفيذ ما أريد.
هناك في الهزيع الثالث من الليل وقبل أنينطلق صوت المؤذن شارخا ليل القاهرة بوقت كاف وبعد أن هدأت الحركة تماما ولم يتبقسوي أنوار الشارع وبعض الساقطات اللائي يقبعن أمام بارات وسط البلد ليمارسن هوايتهنفي اصطياد الزبائن المغيبين عن كل شيء إلا هن ويقمن بممارسة هذه الهواية في حراسةذلك الميزان المائل.. وتبقي أيضا أضواء قليلة وأصوات نفير السيارات الشاردة التي لاتعرف لعجلاتها طريقا أو هوية.. أخذت أحوم حول المبني حتى أعرف عدد قوة الحراسةوطريقة التناوب ونوع الأسلحة التي يحملونها لم أجد سوي خفير واحد فقط يحمل بندقيةقديمة ذات فوهتين ورقم قديم مكتوب باللون الأبيض علي كعبها ممسوح معظمه، بعد أنانتهي الخفير من إعداد راكية النار وضع عليها براد الشاي وسحب الجوزة المركونةبجواره وأخذ يعتني بها.. وبين حين وآخر ينكفيء علي راكية النار حتى يمد جسده النحيلببعض الدفء من لسعات برد يناير القارصة.. وبعد أن فرغ الخفير من شرب الشاي بنغماتاعتدت سماعها من عمدة بلدنا عندما يستدعينا لأمر هام يتعلق بأحوال البلدة علياعتبار أننا علي حد قوله 'متعلمين ومتنورين' وكذلك بعد أن فرغ من حجر المعسل الذيصاحب أنفاسه المتوالية سعال متقطع عال كان يخرج من صدر الخفير مصحوبا ببلغم كانيقذفه تجاهي دون أن يراني، وجدته يستسلم لغفوات متقطعة يرخي فيها جفونه تماما وتمتدإلي حد سماع صوت شخيره الذي يقطعه'كلاكسات' السيارات الشاردة أو صوت قوي لاحتكاكعجلات إحدى السيارات كادت تدهس كلبا ضالا حاول عبور الطريق مابين غفوة وصحوة تسللتإلي داخل المبني مباشرة.. روعني منظر الردهات الفسيحة والممرات الطويلة والسلالمالدائرية الفخمة.. لم أشأ أن أضيع وقتا فقفزت علي السلالم بسرعة حتى وصلت إليالطابق الثاني وسرت في الردهة الطويلة فهاجمت أنفي رائحة عطنة استفزت مارد الفضولالكامن بداخلي فتتبعتها حتى وصلت إلي غرفة تقع في نهاية صف طويل من الغرف التي تملأالردهة، فتحتها بصعوبة بعد أن قاومني قليلاً قفلها القديم.. وجدتني أمام كتب ضخمةللقانون والتشريعات والأحكام تلك الكتب العمياء التي حكمت علي ذات مرة وأنا البريءبقضاء عشر سنوات كاملة وسط الأحجار والرمال ومنتهكي أمن المجتمع وسلامته.. تلكالكتب التي أصبحت لا أحبها مطلقا ولا أطيقها وكثيرا ماحاول صديقي 'سميح' طالبالحقوق أن يبسطها لي ويعطيني مبررا قانونيا للحكم الذي صدر ضدي لكني كرهته هو الآخرمثله مثل تلك الكتب المهترئة.. قفز إلي ذهني سؤال جعلني أهمس بيني وبين نفسي فيضجر:
أين أنت الآن يا 'سميح'؟
لم أدع السؤال يشغلني عن هدفي الأساسي الذي منأجله جئت إلي هذا المكان الموحش. أغلقت الحجرة وتوجهت إلي سطح المبني، لم أعبأبالملفات الكثيرة المتناثرة هنا وهناك أو بالاوراق الممزقة التي يغرق بها السطح كلهبل توجهت إلي حافة المبني التي يوجد اسفلها الميزان فقفزت إلي أعلي وأدرت جسدي إليالناحية الأخري حتي أصبحت علي مسافة قريبة جدا من مرادي، وضعت قدمي علي إحديالنتوءات التي تزين واجهة المبني وأمسكت بيدي اليمني الحافة وأخذت أميل قليلا قليلابجسدي البدين حتي لامست يدي الأخري كفة الميزان المائلة وعندما هممت بإعادتهالوضعها الطبيعي انزلقت قدماي وسقطت بجوار الخفير تماما.. الغريب أنه لم يفزع أويهرول كمن إعتاد أن يري مثل هذا المنظر كثيرا.. تأملني قليلا ثم ذهب بهدوء إلي أحدالخارجين علي القانون والذي يجلس دائما في مقهي مجاور للمبني العتيق وقاتضة عليرصاصة لبندقيته الصدئة مقابل تركه وشأنه وعاد إلي حيث جثتي غارقة في دمائها وفرغالرصاصة في صدري، بعدها أخذ نفسا عميقا وجلس يعد كوبا جديدا من الشاي مع تجهيزتعميرة (تعدل دماغه) التي قلبتها له بفعلتي هذه .