انقطعت عني الزمالة وانا في بلد اوربي لا احد لي فيه ، ولا املك احتياطا ماليا ، لاني كنت ولا ازال من اصحاب نظرية: اصرف ما في الجيب ، ياتيك ما في الغيب. ولم يحدث في حياتي ان طلبت قرشا واحدا من احد ، لذا وجدت نفسي امام مشكلة عويصة جدا يصعب حلها.
و المشكلة الثانية ، ان جواز سفري ستنتهي مدته ، اعني ستنتهي في الوقت نفسه مدة اقامتي. لم يبق امامي ، الا ان اغادر البلاد ، او اقدم على اللجوء السياسي ، والذي كنت ولما ازل ، اعتبره اهانة لوطني ، وكرامة امتي ، بل وكرامتي. لا استطيع ، ولن اقبل ان اطعن بوطني ، حتى ولو شردني ، امام بلد اجنبي ، بعيد عن تراثنا ،وديننا ، وعاداتنا ، وتقاليدنا.
لذا ، فقضية اللجوء امر لا يمكنني ان الجأ اليه ، مهما كانت الاسباب و الظروف. اعني تجمعت كل هموم الدنيا عليّ : الافلاس ، انتهاء مدة اقامتي ، وانتهاء جوازسفري. كنت لا املك ثمن تذكرة سفر ، لاقصد بلدا عربيا ، واتمكن ان اشق طريقي فيه ، ولو بصورة موقتة. ولكن يا ترى أي بلد عربي يرحب باحرارابنائه!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! وبالأخص ، بمن لا يملك ثمن لقمة يسد بها رمقه مثلي ؟ !!!!!!!!!!!!!!!!!! حرت في امري ، كنت افتش في دنيا افكاري ، علّى اعثر على بصيص من الامل ، فلم اجد له اثرا. وجدت نفسي في صراع حاد ، بين امل مفقود ، وظلام مشبع بمآسي الحياة ، يحيطني من كل صوب وجانب. وجدت الابواب كلها موصدة امامي. وقفت في غرفتي متاملا ، علي اجد حاجة لاعرضها للبيع ، غير أني لم اجد ، الا كتبا مبعثرة هنا وهناك ، ومقالات كنت قد كتبتها ، ونشرتها باسمي المستعار ، وقصاصات ورق ، فيها اناشيد صباي. كل ما اراه امامي ، لا يحل جزء من مشكلتي. ماقيمة القلم ، وانت غارق في بؤسك ، وما قيمة الانتاج الفكري ، وانت حائر بلقمة عيشك؟!!!! انتاجي كله ، لا يساوي رغيفا من الخبز، اسد به رمقي. وقفت متاملا كل زاوية من غرفتي ، فوقع نظري على صورة امراة ، كانت قد ودعتني بدموعها ، في مطار بغداد ، وكانها شعرت ، انه الوداع الاخير. ودعتني بحبها ، وحنانها. ودعتني بنقاوة عواطفها . امراة احرقت حياتها من اجلنا نحن اولادها. امراة كنا نحتمي بها في سرائنا وضرائنا. امراة انستني كل شيء الا حبها ، ووفاءها ، واخلاصها. كنت احدق في الصورة ، شعرت وكانها تقول: ( لئن فارقتني ، وصددت عني ..... فقلبي لايفارقه الوجيب وما والله هجرك باختياري ........ ولكن هكذا جرت الخطوب فليس يزول حبك من فؤادي ......... وليس العيش دونك لي يطيب) تاملت الصورة بعمق ، وقد اعادت لي ذكريات ايام زمان: ( ألا إن الجمال ، اذا علاه ..... نقاب الحزن ، منظره عجيب ) اخذت صور الماضي البهيج تمر من امامي ، الواحدة تلوالاخرى. دموعي كانت تنهمر دون ارادتي ، لتطفيء لهيب قلبي ، وتروي حقول امالي. كنت لا احس بالوقت ، بعد ان وجدت نفسي غاطسا في بحر من الهموم والاحزان. كنت بين عالمين، عالم شاعري يرمز لعهد مشرق ، وعالم مظلم لا ارى فيه بصيص امل. كنت لا احس بالوقت ، بل وكاني لست موجودا. غير ان نداء من صديق أفاقني ، وعرفت انذاك ، اني قد استغرقت ساعات طوال في تأملاتي. الوقت كان يمر مسرعا ، والامل كان يبتعد عني مسرعا ، دون ان اعرف ما الذي افعله. تذكرت اني سبق وان حصلت على فيزة لمدة شهر لدولة اوربية مجاورة ، بناء على دعوة كنت قد تلقيتها ، بمناسبة انعقاد مؤتمر طلابي ، غير اني ونتيجة ضيق وقتي ، لم ألبها معتذرا ، الا ان الفيزة بقيت سارية المفعول. لذا عزمت ان اسافر ، علّي أتمكن من تمديد جواز سفري هناك ، عن طريق احد المعارف ، إن ساعدني الحظ. علما أني اعرف شخصا يقيم هناك ويتمتع بوضع مالي جيد ، وسبق ان أسلفت والده مبلغا ليس بهين ، حيث بامكان العائلة الكبيرة في العراق ، أن تعيش به مرفهة انذاك ، لمدة لا تقل عن سنة. اتصلت به هاتفيا ، وأخبرته بسفري نحوه ، ان ساعدتني الظروف ، ولم احدد له وقتا معينا. كان لطيفا معي ، ورحب بزيارتي بحرارة ، فشعرت نوعا ما ، براحة نفسية ، وأحسست ببصيص من الأمل. المشكلة ، كنت لا املك ثمن تذكرة السفر ، ولا اريد ان اخبر أي صديق عن واقعي المادي. السفر لابد منه ، ولكن كيف يا ترى؟!! سبق وان سمعت ، ان بعض الطيبين من سائقي السيارات ، يصحبوا معهم من يؤشر لهم في الطريق( Auto stop ) ويوصلوه مجانا ، ان كان المكان الذي يقصده بنفس اتجاههم. لذا عزمت ان اسافر ، ولا حل امامي غيره. استيقظت في صباح اليوم التالي مبكرا ، وخرجت بدون فطور ، فوجدت الشمس قد اشرقت ، لتضيء قلوب الملايين من ابناء البشر ، ولو انها غير قادرة ، ان تخترق سحب الهموم الدكناء عند الملايين الاخرى. وجدت الناس مسرعة لعملها ، فيهم البائس المثقل بهموم الدنيا ، وفيهم القانع بعيشه. فيهم من يذهب ليمص دماء عماله ، وفيهم الكادح المسكين الذي يمص صاحب العمل ما تبقى من دم في جسده ، لقاء اجر بسيط يساعده على البقاء. تذكرت الملايين الذين لا يقلوا عني هما والما وشقاء. خرجت مبكرا ، وقطعت مسافة طويلة على الاقدام ، استغرقت اكثر من ساعتين باتجاه الطريق المؤدي الى عاصمة الدولة التي أبغيها. اخذ الجو يتغير من مشرق الى مظلم عبوس مبشرا بالمطر ، نعم وجدته قد تغير كما تتغير نفوس العشاق ، وصارت الشمس تختفي وراء الغيوم الدكناء ، كما تختفي الامال وراء مآسي الحياة. تلبدت السماء بغيوم داكنة ، وامتزجت همومي برداءة الجو ، فزادته ظلاما. وصلت المكان الذي أبغيه منهكا ، لأجرب حظي. صرت اشعر بنوع من الجوع ، لا يتفهمه الا من كان مفلسا من امثالي ، وصارت الافكار تتراقص في راسي ، بين امل مشرق وياس مؤلم. وقفت منهكا على قارعة الطريق ، عسى ان يتحقق حلمي ، واعثرعلى من يحقق مبتغاي. كنت ارفع يدي لكل سيارة تمر ، غير اني وجدت لا احد يعيرني اهتماما. السماء بدات تذرف دموعها وكانها شعرت بكابتي ، اما الدموع التي كانت تجري على خدي في غرفتي والتي قد بللت قميصي ، عوضتها السماء بدموعها لتبلل كل ما أرتدي من ملابس . لم يكن احدا غيري واقفا في هذا المكان النائي ، (( كاني اخو سفر تقاذفه الدروب )) وعيناي شاخصتان تراقب كل سيارة تمر.كاد اليأس يخيم على دنيا احلامي وانا في حيرة من امري . سمعت صوتا يدوي ، لشاحنة قديمة (لوري) قد انهكها الزمن ، قادمة من بعيد ، لو رايتها لوليت منها هربا !!! رفعت يدي مؤشرا فوقفت ، وناداني سائقها بصوته الجهوري: اين وجهتك يا سيء الحظ؟ أسرعت راكضا ، وأمواج الأمل تدفعني إليه مبتهجا ، وأجبته في الحال: إلى عاصمة الدولة المجاورة. - ولكن لا يمكنك الجلوس بجانبنا ، لان المقعد لفرد واحد ، وقد شغله مساعدي ، الا انك ان رغبت فبإمكانك ان تاخذ مكانك بين البضاعة في القسم الخلفي المكشوف ، وقال مبتسما ، ستجد كيسا مفتوحا وبإمكانك ان تاكل منه الكمية التي ترغبها ان شعرت بالجوع. فرحت بعرضه ، وشكرته ، وذهبت مسرعا واخذت مكاني بين الأكياس فرحا وظننت انها تحوي على تفاح او بطاطس. فتشت على الكيس المفتوح والذي خولني السائق ان اكل منه ، فخاب املي عندما عثرت عليه وعرفت ان بضاعته بصلا !!!!! اشتدت حدة المطر لتذيب جزء من همومي واشجاني ، ولتلهيني وتنسيني الجوع ، واما شدة الرياح فكانت تبعد عني النوم ، ورائحة البصل. واما صوت الشاحنة المزعج واهتزازها فلا يبشر بوصولنا سالمين. المناخ بامطاره ، ورياحه ، وبرده ، قد امتزج بجوعي ومصيري المبهم. ما سيحدث يا ترى لو حدث عطل في الطريق؟ لان الشاحنة التي تحملني ، توحي لك انها مسروقة من متحف السيارات ، والسائق العطوف ، والذي رحم بحالي ، قد يكون حظه لا يقل عن وضع شاحنته ، واما صوت الشاحنة المقلق ، فلا يدعك ان تفكربشيء. وصلنا الحدود بسلامة ، وختموا جواز سفري ، واخذت مكاني ثانية بين اكياس البصل لانتعش برائحته ، ولكن والحمد لله ، وصلنا المدينة مساء ، وودعت السائق شاكرا. ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
يتبع
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 04-17-2014 في 02:14 PM.