المسافاتُ المُتْعَبَةُ
د.نبيل قصاب باشي
يهزأُ البحرُ بالجبلِ الراسي على فُوَّهةِ البركانِ الجليديِّ
طارت المسافاتُ بينهما تنتظرُ القادمَ المجهول
العصافيرُ مازالتْ هاجرةً أعشاشَها
تهرّأَ ريشُ أجنحتِهَا المتعبَةْ
ورحلةُ غيمتِهَا ما زالتْ تحطُّ على قارعةِ المستحيلْ
ليسَ بيني وبينَ رياحِهَا المسافرةِ سوى جبلٍ منْ جليدْ
كلّما ذابَ قليلاً .. ذابتْ بعضُ حقائبي في محطّتِهَا البعيدةْ
كنتُ غيرَ مُكترثٍ بالحياةِ تحتَ أصابعِ ثلجِهَا
فـ"قابيلُ" اختصرَ مسافاتِها البعيدةَ بعدَ أنْ اغتالَ غُرابَها
أصبحتْ قبورُ الأرضِ مُتاحةً تستقبلُ القتلى والتائهينْ
أكرهُ رائحةَ النّرجسِ في "قابيلْ"
غيرَ أنَّ "ديكارت" لا يُبالي برائحتي ..
ولا بقتلِ كلِّ الزهورِ المزروعةِ في كينونتي
لا يعبأُ مثْلِي بفلسفةِ "النّفّريّ" ولا بـ"رسالةِ غفرانِ المعرّي"
كلانا عائمٌ فوقَ سطحِ الليلِ يخبطُ مثلَ عشواءِ "ابنِ سُلْمَى"
هلْ هربَ النهارُ منْ عيونِ شَفَقَهِ القُرمزيّ ؟
لستُ أفقهُ تفسيراً لفلسفةِ الشمسِ حينَ تغيبُ ألوانُها عابثةً وراءَ الطبيعةْ
لستُ أفقهُ تفسيراً لفلسفةِ الأشياءِ حينَ تتَماهى في كُنْهِ تَشُيُّئِها
أفقهُ شيئاً واحداً هوَ أنّني معتقلٌ في كُنْهِ كَيْنُونةِ الحقِّ السرمديّةْ
قدْ يستطيعُ الباطلُ أنْ يعتقلَ ظاهرَ كينونتي في الأرضِ
لكنَّهُ يعجزُ عنْ اعتقالِ باطنِهَا في جوهرِ سَمائي المختبئِ في سدرةِ مُنتهاهْ
اعْتَقِلْنِي إذنْ أيها القادمُ منْ خلفِ الفضاءْ
لقدْ كفرتُ بما كفرَ بهِ "الحلّاجُ" وآمنتُ بما آمنتْ بهِ حريّةُ العصافيرْ
دعني أزقُّ خمرةَ "الحلاجِ" في زُغبِ حواصلِها كيما أتوبْ
يدي ملطّخةٌ بقتل أعشاشها
آثرتُ أنْ أختبِئَ خلفَ أعشاشِهَا الجليديّةْ
غيرَ أنَّ المسافةَ بيني وبينَ طوفانِ "نوحٍ" قابَ قوسينِ
أدنى منْ يومِ القيامةْ
فمتى أصلُ إلى سدرةِ المنتهى ؟
ومتى أُقبّلُ "هابيلَ" بشفتيَّ المرتجفَتِينْ ؟
ومتى يموتُ غُرابُ"قابيلَ"؟وتهجعُ الأرضُ في سلامٍ أبَدِيّْ ؟
&&&&&
منْ هنا بدأتْ رحلةُ طائرِ الفينيق
لكنَّ رمادَ عشِّهِ ما زالَ منفوشاً على غصنِ شجرةٍ في غابةٍ مجهولةْ
ينتظرُ "ابنَ طُفيلٍ" الذي يبحثُ عنْ حقيقتِهِ الضائعةِ في
مجاهلِ غاباته البعيدةْ
لا أدري إنْ كانَ استراحَ قليلاً على صدْرِ "مجنون ليلى"
أو إنْ كانَ حطَّ رحْلَهُ تحتَ فيءِ عريشةٍ منْ قصيدةِ "ابنِ
الفارضِ" التائيةْ
لعلَّهُ تاهَ بينَ مُنتجعِ الموتِ والحياةِ وبينِ مُنتجعِ الشعرِ الطائرِ
بينهما
لا أدري ربما حطًّ رحلَهُ في مُتَنزَّهٍ قريبٍ منْ برزخِ شواطئِنَا ؟
ما عدتُ أعرفُ كيفَ أقبّلُ شفةً بحريّةً خبّأتْها عروسُ البحرِ
في أصدافِها الحمراءْ ؟
وحينَ استطعتُ تقبيلَهَا غضبتْ منْ عُنْف قُبُلاتي
لكنَّها استسلمتْ ليْ حينَ أتعبَها الوجدُ المائجُ في أصدافِ
بحرِهَا
وحينَ كبحتْها موجةُ العشقِ القادمةُ منْ صَوْبِ البحرِ الهائجِ
في خواطري
كنتُ أجهلُ عشقَها المجنونَ الذي طالما فتّشتُ عنهُ في
شَطَحَاتي
كم قتلتُ هذا المجنونَ الساكنَ في خَاطرتي النرجسيّةِ دونَ أنْ
أتّهمَ نفسي
أزعمُ أني جنيتُ على نفسِي ..
استجوبتْني محكمةُ فطرتي الجنائيّةْ
غيرَ أنَّ قاضي القُضاةِ استأنفَ الحكمَ العادلَ في جَنايتي
أدركَ أنَّ عاشقتي مارستْ رشوتَها ضدَّهُ فاستسلمَ لحُجَّتِها
الدامغةْ
غدوتُ بريئاً لا أُبالي شَبَحَ الانتقامِ منْ نفسِي
وأنا اليومَ طليقٌ أمارسُ حريّةَ الموتِ في سُجونٍ الحياةْ
غضبتْ شقائقُ النُّعمانِ .. شهَرَتْ سيفَها الأحمرَ في وجهي
حاولتُ أنْ أفاوضَها ,, اشترطتْ أنْ تغرسَ لونَها الدّمويَّ في
صدري
اسْتَسْلمْتُ لشرطِها .. لم تدري أنّها كانتْ غبيَّةً تجهلُ فلسفةَ
العاشقينَ وكيدَ المشتاقينَ إلى حقيقةِ الموتْ
لقدْ كانَ لونُها شعاراً لي وسيفُها تاجاً يبرقانِ في جَبيني
ويرسمانِ أُحْجِيتَينِ مُلوَّنتينِ بالزُّمُرُدِ والزَبَرْجَدِ هما : الحريَّةُ
والحياةْ
لم أكنْ أعشقُ اللونَ الأحمرَ إلا عندما فُوجئتْ بأنّهُ كانَ
يُخادعُ لونيَ .. الساكنَ في أطيافهِ الخضراءْ
كنتُ أحسبهُ قميصاً جميلاً فوقَ صدرِ مراهقةٍ حسناءَ يراوغُ
عاطفةَ يافع عابث
إنَّها الحقيقةُ التي سرقتُها منْ عيونِ الشمسْ
لا يحقُّ لأشباحِ الليلِ أنْ تُلاحقَني .. وأرفضُ أنْ تزجَّني في
غَياهبها
أَقْبَلُ فقطْ أنْ تزجَّني خلفَ نوافذِ سجنِهَا كيْ أمارسَ هواءَ
الشمسِ الذي خلقَهُ اللهُ لجميعِ الزهورْ
دبي 3/9/2011م