على غرار دعوة سيدنا سليمان المحكية في القرآن الكريم " ... وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب"- يقال: إن الخليل دعا ربه أن يهبه علما لا يشاركه فيه غيره ويكون له وحده. وسواء أكانت هذه الأمنية صحيحة لفظا أم لا، فإن هذه النفس العظيمة لا يُستغرب منها طلبٌ بهذا الحجم وهي النفس المصهورة في حب العلم كما يقول الشاعر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم = وتأتي على قدر الكرام المكارم
هذه الأمنية إن لم ترد عنه لفظا فهي سكنته حلما، فهو ذلك العَلَم الذي إذا أردنا تعريفه ذكرنا اسمه فقط. هذا الرجل -الذي أوتي ما لم يؤته أحد- اجتمع عزمه على اكتشاف الإطار النظري الذي يجمع كل هذا الكم الشعري الذي يسمعه. ولأنه لم يترك لنا مذكراته العلمية ولا مسوَّدات تطور هذه الفكرة فلن نستطيع تمثلها تمثلا ينقل لنا كل مساحات الضوء التي سكنت رأسه وقلبه ونفسه على امتداد التنقلات بين مراحل هذه الفكرة.
لكن من يعالجون الأفكار وتطورها لا يصعب عليهم تخيله وهو يحمل تلك الرغبة وذلك التوجه داخل عقله التحليلي وأذنه الموسيقية فيستثمر كل ما حوله لهذا الغرض، وظل هكذا حتى يقال: إنه مرّ على من يطرق النحاس فأنصت للدقة والسكون الذي يعقبها وتكرار ذلك، وألهمه الله تعالى المفتاح والمدخل لذلك البناء الذي خرج منه كاملا.
دخل الخليل معمله الموسيقي العلمي ومعه عقله التحليلي التجريدى وأذنه الموسيقية وذلك الكم الهائل من الأشعار، وبدأ البحث وظل يحاول ويعيد ترتيب التصورات على ضوء المستجدات التطبيقية، وتمثل طريقة "زهير بن أبي سلمى" صاحب الحوليات المنقحة. ظل عاكفا على ذلك لا يصرفه عن ذلك صارف من هم دنيا ولا حاجة نفس ولا نزوع قلب إلى أن استوت رغبته علما له أطره النظرية الكاملة الواضحة.
2- الأبجدية
أدرك الخليل أن ما يسمعه من الشعر يختلف أثره السمعي، وتساءل عن سبب حدوث ذلك: لماذا يحدث هذا الاختلاف؟ ما سببه؟ انطلق ذهنه التحليلي يحلل ويجرد حتى اكتشف أن السبب يكمن في اختلاف وحدة البناء الشعري. ما وحدة البناء الشعري؟ إنها التفعيلة التي يختلف تركيبها فيؤدي ذلك إلى اختلاف الأثر السمعي العام.
ما التفعيلة؟ إنها تَجمُّعٌ من الحركات والسكنات في أشكال مخصوصة، ويؤدي تكرارها إلى نشوء الإيقاع. ما الإيقاع؟ إنه ثبات بين متقابلين يتكرر عبر وحدات زمنية متساوية أو تكاد أن تكون متساوية. ومم ينشأ الإيقاع في العروض؟ إنه ينشأ من تكرار التفعيلات تكرارا ثابتا عبر الزمن. ومم تتكون التفعيلات؟ إنها تتكون من هذه التجمعات المختلفة كمًّا من الحركات والسكنات التي تنتظم في الأزواج الآتية: [ ( /0 - // )، و( //0-/0/ )،و ( ///0-////0) ].
ثلاثة أزواج تتكون منها التفعيلة، وبيانها كالآتي:
الزوج الأول- السبب
ينقسم السبب إلى: السبب الخفيف الذي رمزه ( /0 ) ، وهو يتكون من حركة " / " وسكون " 0". والسبب الثقيل الذي رمزه ( // )، وهو يتكون من حركتين " // ".
الزوج الثاني- الوتد.
ينقسم الوتد إلى: الوتد المجموع الذي رمزه ( //0 )، وهو يتكون من حركتين " // " بعدهما ساكن" 0 ". والوتد المفروق الذي رمزه ( /0/ )، وهو يتكون من حركة" / " وسكون " 0 " وحركة " / ".
الزوج الثالث- الفاصلة
تنقسم الفاصلة إلى: الفاصلة الصغرى التي رمزها ( ///0 ) وهي تتكون من ثلاث حركات" ///" وسكون" 0". والفاصلة الكبرى التي رمزها ( ////0 )، وهي تتكون من أربع حركات " //// " وسكون" 0".
وقد تم جمع هذه الأجزاء في هذه العبارة التعليمية ( لَمْ أًرَ عَلَى ظَهْرِ جَبَلٍ سَمَكَةً )، وتقطيعها كالتالي( /0-//، //0- /0/ ،///0- ////0 ). وأسماؤها ( سبب خفيف- سبب ثقيل، وتد مجموع- وتد مفروق، فاصلة صغرى- فاصلة كبرى).