((كل شيء ليس على ما يرام))
سيدي الكريم...
(ارجوا التفضل بالموافقة على إحالتي للتقاعد وذلك لتجاوزي السن القانوني..مع التقدير)
منذ ذلك الصباح المعربد بالأحداث الغريبة،عرفت أن كل شيء ليس على ما يرام،ها هي طاولتي مغطاة بطلبات أشيائي المتعبة ومذيلة بتوقيعها،حذائي...قميصي...سروالي... وحتى محفظة النقود التي صيرتها ملفا للقصائد إذ نادرا ما كانت تزورها النقود،كل هذه الأشياء قد تجاوزت محنة الصمت وصارت تتبع أساليب الروتين الإنساني،يومها رفضت الموافقة على جميع الطلبات لعدم توفر الملاك،وكذلك لأيماني الشديد أن...كل شيء ليس على ما يرام.وربما ساجد في يوم استدعاءا رسمي يدعوني للمثول أمام محكمة العدل الدولية بحجة مخالفة القوانين الإنسانية من خلال اضطهادي لكل أشيائي، كثيرا ما غزت مخيلتي مثل هذه المخاوف،ولكن دفاعي الوحيد هو صدق تمنياتي بمنح الأشياء كل الأشياء ابسط حقوقها،وعدم قدرتي المادية تجعلني عاجزا عن الإقدام علىهذه الخطوة الإنسانية،وكذلك أن جميع الظروف تنبئني أن...كل شيء ليس على ما يرام . الفانوس الذي اقتل به ضجري من خلال القراءة على نوره الفقير إذ هو مصدر الإنارة الوحيد في المنزل،حتى ذلك النور المتخاذل سقط من يدي وتكسر تماما،فما عدت أرى في الليل غير دبيب العتمة المتوغل في عيني ليريني شيئا واحدا فقط وهوان...كل شيء ليس على ما يرام.
صورة زوجتي المتوفاة منذ سنوات والتي تقتل بابتسامتها الأبدية وجوم وحدتي،حتى الصورة غادرت زاويتها المعتادة ،سقطت على الأرض وتهشم إطارها حينما كنت أحاول أن أزيل الغبار ونسيج العنكبوت العالق عليها،وما جعلني ارتعد خوفا هو تقلص ابتسامتها بعد ذلك السقوط اللامتعمد الذي جعل الوجوم يتعاظم يوميا حتى حول ابتسامة الشفاه ألي بوادر نحيب ماض بلا ريب ليشارك في كرنفال أشيائي،والذي يؤكد لي أن... كل شيء ليس على ما يرام.
آخر من غادرني هو قلمي ومعه جميع أوراقي،رحلوا دون أن اعلم،ولم يتبقى منهم غير ورقة صغيرة كتبوا عليها:
(الدكتاتور...اللص...العاهرة...الشرطي...التاجر...ال فقير...وحتى الحب،لم يتغير شيئا في كل هؤلاء منذ أن تعلمت القراءة والكتابة،لذلك شذب غابة النخيل المنتصبة على قمة رأسك لتبارك خيبتك لتعلم أن...كل شيء ليس على ما يرام).كل شيء ليس على ما يرام.
عندها تذكرت خيبتي الكبرى،إذ وضعت في غرابيل حياتي كل شيء:الوجود...الموت... الحياة...الله...الدين...الفلسفة...الخمر...النساء.. .الكلمة...وحتى أنا بكليتي،أقحمت كل ما يؤمن الخضرة الدائمة في طريقي،والبياض الذي يلف السنوات التي سأعيشها على هذا الكوكب الفقير،ولكن حالما أخذت غرابيل رأسي بممارسة اهتزازها الرتيب،تسربت كل الأشياء بأحجامها وأثقالها،لم تتبقى غير الحقيقة التي فرضت وجودها المتماسك على شدة عنادي،ولم تتبقى غير غمامة موغلة بالعتمة واللزوجة التي أطفأت كل عيون غرابيلي،لتؤمن البقاء الأزلي لخيبتي والديمومة الكبرى لحقيقة أن:كل شيء ليس على ما يرام.
***
مشتاق عبد الهادي