ربما تكون حالتي اليوم أفضل مما كانت عليه في اليومين الماضيين حين كنت مستغرقة في قراءة وتأمل فصول رواية ( موطن الألم ) أو ( وزارة الألم ) حسب ماأشار العنوان الإنجليزي لهذه الرّواية التي حملت توقيع الرّوائية الكرواتية (اليوم ) اليوغسلافيّة (في الأمس) دوبرافكا اوغاريسك .
ويبدو أنّ تتمّتي لقراءتها قد أراحني كثيرا ، وغمرني إحساس يشبه ذلك الذي يأتي بعد ليلة مثقلة بالقصف العشوائي أو بصورة أدق فإنّ إحساسي بالرّاحة الآن وما يشوبه من ألم (النّقاهة ) يشبه ذلك الذي يعقب نهاية هجوم مسلّح بين طرفين متنازعين ؛ شاء القدر أن يكون موضعي على خطّ تماس المواجهة بينهما...
فهذه الرّواية تعنيني ، وتعني كل النّازحين بالدّرجة الأولى ، كتبتها دوبرافكا اوغاريسك ( لنا) على اختلاف جنسياتنا وبلداننا وأدياننا ومذاهبنا وأعراقنا . أعدّتْ الكاتبة من خلالها حفلات لجلد الرّوح وارتشاف لسيل الجراح وتقاسمها فيما بيننا ؛ فلليوغسلافي ملحها ولنا دمها – والعكس صحيح أيضا – فكل ٌ له شرب يوم معلوم من الحرب والنّفي والإذلال ومن ثم التّقسيم ...
لقد ابتدأت الرّواية بمخاطبتنا ومخاطبة ذلك السّاكن في الخفايا والذي يخشى أن توّجه له أصابع الإتّهام لو احتجّ على الملأ قائلاً : " الحرب كانت تعني خسائر فادحة للعديد من النّاس ، ولكنّها في الوقت نفسه سبباً للانسلاخ من حياةٍ قديمة والشّروع بأخرى من نقطة الصّفر " !!
أو قولها : " لقد هربنا من بلادنا مثل جرذان نجت ْ من سفينة تغرق ، صرنا في كل مكان ، السّواد الأعظم هرب إلى حدود الدّولة السّابقة للاختباء فترة وهم يظنّون أنّ الحرب ستنتهي قريباً كما لو أنّها عاصفة ممطرة وليستْ حريقاً مدمّرا".
فهذا الحريق الذي أشارت له سوف تعجز اللغة بعده أن تصبح وطناً بديلاً أو خيمة تظّل النّازحين على اختلاف مذاهبهم وأعراقهم ، وستصبح أرض المنفى خصبةً لنمو أعشاب الصّمت المتسلقة آبار الرّوح ، وسيطلق هذا الحريق العنان للصور المحفوظة في جدران الذّاكرة للأوطان ، والمدن ، والبيوت ، وتفاصيل غرف النّوم ، والمعيشة ، وحتى صور و ذكريات صوت حنفيات الحمام والمطبخ وتدفق المياه في سواقي الحدائق ، كلّها سيطلق الحريق العنان لها كي تقطّرَ مرارة شيئا فشيئا ؛ في كل التفاتة ، وكلمة ، وفي كل خطوة متنقّلة بين شوارع المنفى أو بين خيم النّازحين ...
لقد كانت سطورها شديدة السّطوع ؛ تطفئ العتمة التي تحاول ستائر السّياسة أن تسدلها على كلّ ما مرّ به النّازحون ، وما آل إليه حالهم . وبهذه السّطور الشّاهقة في آلامها بينت حال طلبتها الذين كانوا يوغسلافيين ، ثمّ تشظّتْ هوياتهم وجنسياتهم إلى خمس هويات ، وخمس جنسيات ، وخمس لغات ، ولا أدري كم طائفة وطائفة إلى الحد الذي جعل أحد طلبتها ( يوروش) يكتب :
" كانت يوغسلافيا مكاناً بغيضاً ، كان الجميع يكذبون ، طبعاً ومازالوا يكذبون ،ولكن كل كذبة انقسمت إلى خمس ، كذبة لكل بلد " !!
فمن منّا ينكر أنّ ما جرى منذ العاشر من حزيران - حين تساقطت مدننا تباعا بيد داعش - للآن لم يغيره ؟ من ينكر وقع الدّبابيس وهي تُغرس في عينيه وقلبه وهو مكبل اليدين معقود اللسان صامت القلب إلا من هول الصّدمة
من منّا ينكر أن الحرب لم تغير ذائقته ولا أولوياته تماما مثلما ذكرت دكتورة لوسيتش :
"بدأت ذائقتي تتبدل حالما اندلعت الحرب، والآن نادراً ما أستطيع التّعرف على نفسي ، الأشياء التي كنت أحتقرها قبل الحرب واسخر منها على نحو ممرض أصبحتٌ الآن أذرف الدّموع عليها "
من منّا ينكر أن اللجوء والتّهجير لم يخرج كل المخاوف الطّفوليّة إلى السّطح ، وأن اختفاء مدينتنا الأم خلف متاريس الرّعب التي ابتدعها السّياسيّون ببراعة قد ولّد مشاعرَ عصيّةً عن الفهم ، مشاعر ممزوجة برماد التّهجير والحرائق واللاإنتماء والسّحق والإبادات الجماعية ، فتقول دوبرافكا:
" اختفاء الوطن يولد الشّعور بوجوب محو الحياة التي عشناها ، فلم يكتف السّياسيون الذين جاءوا للحكم بالتّمتع بالسّلطة فقط ، بل أرادوا أن يكون مواطنو دولهم مثل الموتى الذين أعيدوا إلى الحياة ، لكن مسلوبي الإرادة والقدرة على الكلام ، أناساً بلا ذاكرة ، لقد شهّروا بماضيهم اليوغسلافي وشجّعوا النّاس على التّخلي عن حياتهم السّابقة ونسيانها "
31 - 12- 2014
كوكب
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟