استيقظت صباحا مبكرا وذهبت في الحال الى شرطة الاجانب وجددت اقامتي ، ثم اشتريت بطاقة سفر درجة ثانية بالقطار ، لعدم وجود درجة ثالثة ويا للأسف ، والسفر سيكون عن طريق الدول الاشتراكية ، لرخص الثمن بحوالي 50 % . أي عن طريق:
المانيا الشرقية - جيكوسلوفاكيا - المجر - يوغوسلافيا - بلغاريا - تركيا ، وعرفت في الوقت نفسه ، ان سفري لاستنبول سيستغرق ثلاثة ايام بلياليها .
لم يبق معي من النقود سوى عشرة دولارات ، للطعام ، وأجرة العبور في الباخرة الى الجانب الاسيوي من استنبول لمحطة فتاح باشا للقاء اخي .
تركت البيت وفي جيبي عشر دولارات ، وأوراق للكتابة ، وقلم حبر لا يفارقني لحظة ، قاصدا محطة القطار بحقيبة صغيرة لا تحوي سوى بعض ما احتاجه من ملابس وثلاثة كتب معدة للطبع وهي:
1-(( اوراق ذابلة )) اشعار تمثل مرحلة صباي وبداية شبابي. 2-(( دموع تلتهب )) شعر 3- (( عجلة التطور لا ترحم ))
كتاب بحوالي 500 صفحة ، كنت قد كتبته حول بطلان الاسس التي تقوم عليها الماركسية اللنينية ، مستندا على حركة التطور الاجتماعي من خلال تناقضاته. وتوقعت نهاية الانظمة التي قامت على الاسس الماركسية باعتبارها اصبحت انظمة رجعية ليس بامكانها ان تساير حركة التطور الاجتماعي. وحدث ما توقعته بعد سنوات بالضبط.
كتابي هذا سبق كتاب كورباجوف ( برسرويكا ) بسنوات ، وقد شرحت فيه المرحلة القادمة لطبيعة المجتمع البشري ، واستندت على تحاليل علمية ، ووقائع لا على تخيلات نابعة عن الاتجاه الايدلوجي ، وبينت مزايا النظام الجديد القادم والذي لم يتطرق اليه كورباجوف بكتابه.
فكرت بعد مقابلتي لأخي ، سأتوجه من استنبول الى لبنان ، ولي فيها اصدقاء اوفياء ، ومعارف شرفاء ، وأصحاب اقلام امناء . وأقدم انتاجي لأحدى دور النشر ، وارجع لأكمل دراستي.
وصلت المحطة وأخذت مكاني في القطار ، وكنت فرحا بلقاء اخي والذي لم اره منذ سنين طويلة. كنت اشعر اني أقترب الى وطني ، وأهلي ، وأصدقائي ، ومعارفي. لا شيء يقلقني الان وفي جيبي عشرة دولارات تكفيني لحد استنبول .
خرجنا من اراضي جمهورية المانيا الديمقراطية ( ( DDRبسلامة ، ووصلنا الحدود الجيكوسلوفاكية وشعرت بنوع من القلق ، الا انهم كانوا مؤدبين ولم اجد في تصرفاتهم إساءة لأحد من الركاب. اليوم كله ونحن في القطار ، في الاراضي الجيكية ، وغادرناها مساء ، ووصلنا الحدود المجرية. جاء مسؤول الجمارك ، وطلب من كل مسافر جوازه ، وصار يسال واحدا واحدا عما معه ، ويفتش حقائبه بكل دقة. سألني عما معي ، وأجبته صادقا ، ثلاث كتب عربية ، وألبسة تخصني. سألني بلهجة آمر لجنديه ، او سيد لخادمه ، عن محتوى الكتب ، وأجبته اشعار حب وغرام. اخذ الكتب الثلاثة ، وجواز سفري ، واختفى ، وبعد ساعة تقريبا ، اتاني عابسا وامرني بمغادرة القطار ، بحجة فيزة المرور غير قانونية. طالبته بكتبي
واخبرني انها صودرت بناء على قوانيننا.صحت به منفعلا:
- امنعني من المرور ببلدك ولكنك غير محق في مصادرة كتبي ، لاني اعتبرها سرقة علنية. اجابني:
- غادر القطار حالا و الا ارميك في السجن.
- ارميني في السجن لكوني لا اخاف منك ، ومن قانونك الجائر ، لأنكم سراق انتاجي الفكري. تقدم الي ثلاث عساكر وأنزلوني عنوة ، وأحاطوني الى ان تحرك القطار. لا يكفي ان القوانين الجائرة ، سلبت مني راحتي وسعادتي ، و الان هي هي التي سرقت عصارة فكري المتجسدة في انتاجي !!!! ثلاث كتب فيها عصارة معرفتي وحبي ووجداني ، ثلاث كتب هي جزء مني !!! من خول الاصنام السياسية أن تسرقها مني علنا. ما قيمة القانون الذي يخول منفذيه ان يسرقوا عصارة افكار الناس ويحطموا آمالهم ؟! شعرت حقا أني اعيش في عصر الغاب الذي يعتمد على قوة العضلات ، والسلاح ، لا على قوة الفكر !!!!
اصبحت مجردا من كل شيء ، عدا ايماني وشرفي ومثلي العليا !!!!!! لا حكومة تدافع عني كمواطن ، لأن المصالح الدولية فوق كل شيء.شعرت بعمق ، قسوة القوانين الجائرة اتجاه مواطن تتلاعب فيه امواج المصائب ولا من مساعد.
كنت اتخطى في جو بارد ، وفي بقعة مكشوفة من الارض لا تزيد عن عشرة امتار وكانت الابصار متوجهة الى انسان لازال في عتبة شبابه:
(( امر فتنظر الابصار شزرا .... الي كأنما قد مر ذيب ))
امروني ان اغادر اراضيهم مشيا الى الحدود الجيكوسلافاكية ، وأنا أمطرهم بوابل من الشتائم والتي لا تجديني نفعا.
اصبحت الابواب مقفلة امامي من جديد ، وتبخر الامل الذي صاحبني في بداية سفري. لا ادري الان الى اين اتجه ، ولا املك في جيبي سوى عشر دولارات. ولا املك الا فيزة مرور جيكوسلوفاكية ، ولا يحق لي البقاء فيها اكثر من 24 ساعة .
بعد نصف ساعة من الانتظار في جو بارد ، جاء قطار جيكي وركبته مجبرا. شعرت الركاب بحالي المزري ، وكانت تنظرني بعطف مكبوت ، ولا احد منهم قادر ان ينبس بكلمة ، خشية ان يكون مصيره مجهولا كمصيري. اقولها والحقيقة يجب ان تقال ، ان الشعب السلوفاكي ، يمتاز بطيبه كأخيه الشعب الجيكي ، اذ لم اجد منهم الا طيبا.
جاء مسؤول التذاكر طالبا تذكرتي ، صرخت بوجهه قائلا : هذه تذكرتي القديمة ، وقبل ساعات اتيت بنفس القطار وأرجعوني عنوة من الحدود المجرية ، سراق الفكر. وجدته يتركني متألما ، مع انه بأمكانه ان يغرمني ويجبرني على شراء بطاقة جديدة بحكم القانون ، او مغادرة القطار. لا انسى هذا الانسان الطيب والذي تحدى القانون ، عطفا على مسافر لا يعرفه ، ولكنه شعر بنكبته ، و ماساه من مظهره الخارجي.
ابان رجوعي في القطار ، شعرت نفسي ابتعد عن وطني ، وأخي ، وأهلي ، وأصدقائي أي بعكس الشعور في مجيئي. تذكرت اغنية عراقية قديمة كنت اسمعها في صباي:
(( لمن اكول وانا اشتجي ، مليان كل كلبي حجي... ما ينفع اكليبي الندم ، ما تنفع اعيوني البجي ، اعيوني البجي )) الاغنية باللهجة البغدادية . الكاف في الاغنية تلفظ g في الانكليزية. ومعنى المقطع من الاغنية : لمن اقول وأشكو له همي ، وقلبي مشبع بأسرار وهموم مكتومة . فلا يجديني الندم ، ولا ينفعني البكاء ، بل ولا يخفف من همومي.
رجعت بالقطار لأقرب مدينة في طريقي ، وهي براتسلافا ، و الان وبعد انفصالها من الجيك اصبحت عاصمة السلوفاك.
وصلت مدينة براتسلافا في حوالي الثامنة والنصف مساء ، واليوم لسوء حظي هو اخر ايام السنة الميلادية ، أي ليلة راس السنة ، والدوائر الحكومية كلها مقفلة ، ولا اعرف ما سيحل بحالي.
ذهبت الى الاستعلامات في المحطة ، وأعطيت المسؤولة رقم هاتف لصديق لي سلوفاكي ، ورجوتها ان تتصل به ، وتخبره اني انتظره في المحطة ، وأخبرتها ليس معي نقود سلوفاكية لاتصل انا به. استجابت المرأة الطيبة لطلبي ، واتصلت به وبعد وقت قصير وجدته عندي واستقبلني فرحا بقدومي ، الا انه وجدني مضطربا ، قلقا ، واستغرب من قسمات وجهي التي تقطر كآبة وألما. حدثته بما جرى ، وطلبت منه ان نتوجه في الحال الى القنصلية المجرية. وصلناها ووجدنا الباب مغلقا ولا من مجيب . طلبت منه في الحال ان نتوجه للقنصلية النمساوية عل من يساعدنا ، بعد ان علمت من الاستعلامات ان اخر قطار يغادر الى فينا في حوالي الساعة العاشرة الا ربعا. وصلنا القنصلية وضغطت على جرس الباب واذا بشخص يكلمنا قائلا : ما تريدون ؟ اجبته اريد فيزة ، اجابني ضاحكا ، عيد راس السنة ، ولا احد هنا ، تفضل بعد غد صباحا ، واخبرني انه الحارس. اخبرته اني طالب عراقي ، وبينت له ما حل بي ، ورجوته ان يتصل بالقنصل ، عل قلبه يحن ويستجيب لطلبي. انتظرنا قليلا ، و اذا بالحارس يفتح لنا الباب ، ويقول تفضلوا القنصل سيصل في الحال. دخلنا وجلسنا في مكان مريح ، وبعد ربع ساعة ، جاء القنصل مرحبا بنا قائلا:
تركت زوجتي ، و اولادي ، وجئت مسرعا لمساعدتك ، وقال لقد حدث معي مرة و انا طالب شبيه بما حدث لك ، واستعنت بالقنصل العراقي ، وجاء في وقت متأخر وساعدني فوجدت وقتا مناسبا لأرد الجميل.
اعطاني اقامة لمدة شهرين ، مع اني طلبت فقط فيزة مرور. ورفض ثمن الرسوم ، وقال اعفيك منها وتمنى لي سفرة مريحة وودعنا بكل ادب.
هذا الانسان ، انقذني حقا من مشكلة ، ولما ازل اتذكره دوما ، شاكرا نبله ، وشهامته. هذا الانسان الذي ترك عائلته ليلة راس السنة ، ليخرجني من مأزقي ، واشكر من خلاله الشعب النمساوي الذي صاحبنا القنصل احد ابنائه. (( ولرب نازلة يضيق لها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج ضاقت ولما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت اظنها لا تفرج )) ذهبت وصديقي ميشيل مسرعين للمحطة ، واشتريت بطاقة عبر فينا الى مدينة يوغوسلافية ، ومن تلك المدينة تصبح بطاقتي القديمة نافذة المفعول. ثمن البطاقة تسعة دولارات ، وبقي بجيبي دولارا واحدا للطعام ، لمدة يومين وليلتين.وفي الحال ركبت القطار مودعا صديقي الطيب القلب ميشيل. ما كان يحل بي لو القنصل النمساوي اخذ مني رسوم الفيزة ؟ لما تمكنت ان اشتري بطاقة سفر ، و لتغيرت مجاري الامور ، وازدادت بؤسا وتعقيدا. صديقي ميشيل لا يستطيع ان يشتري لي بطاقة ، لأنه لا يملك عملة صعبة ، وبنقودهم ممنوع ، الا اذا عنده تصريح بالسفر. لطف الله بي وانحلت المشكلة. وصلت فينا قبل منتصف الليل بقليل ، وعلمت من الاستعلامات ان قطارا يخرج الى استنبول بعد دقائق ، ذهبت مسرعا وأخذت مكاني في القطار مهموما كئيبا ، والجوع قد اودى بي ، لاني منذ يوم ونصف ليلة ، أي منذ خروجي من البيت ، لم اذق طعاما.
ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
يتبع
آخر تعديل صلاح الدين سلطان يوم 05-24-2015 في 11:38 PM.