هادئة كانت عندما وصلها أمرانفصالها عنه، رُبما لم يرق له قدك النحيــل أو ملّ صمتـك، وتأمُلك، لم يـُدرك أن وراء ذاك الصمت حُزن دفين وما التأمل سِوى ألمٌ وحيرة!
واصلت حياتها كما ينبغي أن تواصلها، التزاماً وحياءً تحد الواقـــع الذي نظر إليها بسلبية، فرضت على نفسها شبه عُزلــة، تنفــردُ يوميــاً بِنفسها، تستمـعُ لبتهوفـن وموتــزارت
وبعضٌ من ليلكية الحكايات تقرأها، لتغرورق عينيها بالدمع فتسترسل وذكريات منزلها الصغير المُلقى عِندَ خاصرةِ نهرٍ جنوبِ المدينةِ، صديقاتها آلاتي ابتعدن عنها، أية صديقات يا رؤى!! من تبتعد عنك بضائقتك امسحيها من أجندة الوجــود لديك، احذفيها من قائمة الانتظارات!! غداً ربما عُدنَّ، وربما احتجـن مساعـدتك أيضـاً، لا تستسلمـي لأحـزانـك، وتابعــي بإصرار مابدأت به..
أوشك المسـاء علـى أن ينقضـي ذات ليلـةٍ باردةٍ، حيـنَ رنَ هاتفُ المنزل يستعجلُ الرد، َرفَعَ والِدَها السماعة، إنهُ رجب ابنُ خالتـهِ، يُخبِرهُ بأنهُ سيصلُ أرضَ الوطنِ خلال أيـامٍ، لـم تُعـر الأمرَ أهميـةً وانصرفتْ إلى مُتابعةِ شؤونِها، كم مُمـلةٌ الوحدة، ونَفَسُ والِدَها الذي شارفَ على السبعين مِن عُمره كانت تشعر بالشفقةِ عِندما تنظرُ إليهِ، يدهُ لم تعُد تلك القوية وصوتهُ لم يعُد ذاكَ الرخيم، الذي تخشاهُ حينَ دخولهِ المنزل كان يُدرِكُ نَظَراتهـا، وما يدورُ بِخُلدِها، لكنـهُ كان يأبـى تِـلك الشفقةَ التي يقرأها في عينيها.
كثيراً ما شعرتْ بتأنيبِ الضميـر، بينمـا تتخبـطُ نزقـاً، لكِنهـا سُرعان ما تداركت الأمـر، فلجـأتْ إلى الليـن فـي مُعاملتـه
لكنـهُ كـان يرفـضُ تيـك المعاملةَ مِنـها، وينصـرفُ لقضـاءِ حوائجهِ بنفسهِ، بشيءٍ من النزقِ
لا شَكَ هاتِف ابن خالته رجب أحـدثَ تغييـراً في نفسيته فأخـذَ يستعدُ للقائـهِ، مسترجِعـاً طفولَتـهُ برفقتـه، ولعبهمـا في منزلِ والدهِ الكبير.
فيكانت رؤى تبتسمُ وهي ترى والِدها يَنظِرُ إلى نفسهِ المِرآة، كم تغيرت يا عبد الجبار خمسة وعشرين عاماً لــم ألتق بابن خالتي هو من عُمري تقريباً، أسفي على شبابِك يا عبد الجبـاركـم كُنت وسيماً، صبايا البلـدة كُن مُغرمـاتٍ بك
ـ هتفت رؤى من" أخبرك بذلك ياوالدي؟"
***
ـ انتبه عبد الجبار لوجود ابنته، فانسحبَ خارجَ المنزلِ ليُخبر رفاق حيه، بقدوم ضيفه.
عادت رؤى لوحدتها، ولموسيقى الشجن (كانت الصبايا مُغرماتٍ به يالغرورك أيها الرجل) رددت بينها وبين نفسها وتنهــيدة حزينـة كادت تحرق أنفاسها، فتحـت حاسوبهـا
تستطلِعُ أمر العالم المنكوب، فإذا بالتيارِ الكهربائي ينقطعٌ عن المنزل، نظرت من نافذة غرفتها، المُشكلة عامة، لقد انقطع التيار عن الحي بأكمله، عليها إنارة سلم العمارة تحسباً لئلا يتعثر والدها بالصعود لدى عودته
***
مرّ الصباح ورؤى تستعد لاستقبال ضيف والدها، أنهـت بعض الأعمال المنزلية،ثُمتوجهت لابتياع ما سيحتاجونــه توجهت أولاً إلى المصرف، سحبت بعضاً مِن النفــود، كانت
الحركـــة طبيعيـــة، وحركـة الإيـداع جيـــدة، جميـل سعـــر صـــرف الليــرة يتحسـن أمـام الـدولار، ابتسمـت وغـادرت لتستكمل مشاويرها قبل حلول المساء.
للتـــــودخلت المنزل، كان كل شيء على ما يُرام، استبـدلت ملابسها بفستانٍ اشترتـهُ نظـرت إلى المــِرآة، كـان
اللون العسلي يُناسب لون بشرتها، وعينيها وشعرها استبدلت حذاءهـــــا بآخرٍ يُناسِبُ ملابِسها، بينما أطلقت لِشعرها حُرية
استدارت نحو الصالة لتُنيرها، مُلقيةَ بأريكة مخملية عند أعلى زاويتها، اطمأنت على جاهزية والدها للاستقبال، كان جالساً في غُرفته يتابع خطواتها بشيء من قلق يا لحظك
السابعة مساءً، تتقدم رؤى لتفتح الباب، العم رجب برفقته عزّة ابنته وحقيبتيّ سفر وبعضاً من دموعٍ تُذرف، إنه الحنين إلى الوطن!عِناقٌ طويل بين ابني الخالة، وبين الفتاتين عزة ورؤى
كانت عزة تتمتع بِقدٍ ممشوق، وعينين نجلاوتين لِجانب.
أناقةٌ مُبالغٌ بها، أنهت دراستها في الأعمال الإدارية وقِدمت إلى وطنها الأُم الذي لم تره منذ أن كانت طِفلة، تهوى السفروالتسـوق،ومُتابعـة آخـر خطـوط الموضة. تعمـل مـع والدها في معمله الصغير في أرمينيـا، بعـد أن غـادر موسكـو إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، وانفصال أرمينيــا عنه، كان قــد تزوج من فتــاةٍ روسيـــة هادئة الطِبــاع، رزينة، توفيت منــذ فتــرة إثـر مرضٍ عضـال، لم تشأ عــزة التي شارفــت علــى الثلاثين من عمرهــا أن تتــزوج وتترك والدها وحيـداً، ازداد تعلقهما ببعض كثيـراً بعد وفــاة والدتهـا. أصبــح كُل حياتهـا اهتمامهـا بعالـم الموضـة انعكس على مظهـر والدها مما زاده وسامـةً وأناقــةً، جعلتــاه محط أنظار سيدات أعمـالٍ، إلا أن وفـاءهُ لزوجتـه الراحلـة وتعلقه بابنته منعاه من الارتباط بأي منهن.
رجبكانت رؤى تستمع لحديث والِدها مع ابن خالته بينماتُعِدُ مائدة العشاء
ـ رؤى يارجــب تزوجـتْ مِن رجُـلِ أعمــالٍ، قبــل أن تُنهــي دراستهـا، سافرت معـــه إلى الخليـج العــربـي أعـوام ثمانيــة انفصلت عنهُ بعدها، لِتعـود إلى وطنهــا، والدتهـا كمــا تعلـــم لاتسأل عنها، وهي لا تُحب أن نأت على ذكرهـا أبــداً، إنهـــا ترعاني وتدير شؤون المنزل
أخشى أن يوافيني الأجل وتبقى وحيدة، أخوهـا مــن والدتهـــا حاول كثيراً الاتصال بها
لكنها بكل مرة تصده، تقول بأنها سعيدة، لكنني مُتأكد بأنهـــــا على عكس ماتقول.
ـ العشاء جاهز، جاءهم صوت رؤى كما لو أنها لاتريدهـــــم إكمال الحديث.
لا حظ رجب لباقة رؤى، وجمالهـا وقُدرتهــاعلى إدارة دفة الحوار بذكاء
تمكنت من عقد صداقة مع ابنته عـزة، التي تأسـرها الأناقــة وحُسن المظهر
الحمد لله أنهما انسجمتا، كانت ستكون كارثة لـو أن إحداهمــا نفرت من الآخرى.
مرّ الأسبوع الأول على كلا العائلتين هادئاً جميلاً، لم من أحاديث الذكريات، وطيب أيامها، رؤى كانت مُتحفظة بحديثها عن الأمس، فأغلب ما فيه أوجاعٌ والآم، طفولتهـا رافقت وجود أُمها التي لا ترغب في الحديث عنها مُطلقاً !
بينمـا أوج صِبـاها كـان بِرفقـــــةرجل قيـل بأنـــه رجــل،
لخص وحشية المعاملة معها أعوامٌ ثمانية !
***
.. بدأ المساء بالهبوط بارِداً ، حاملاً معــــه رياحٌ ندية، تُنبـئ ببعض من زخات ماطــــــرة مُنتصف نيسان ، نهض الجميع إلى الصالة حين شعـرت عـزة ببعض من الإعيـاء فانسحبت
بلباقة، ليستكمل الثلاثي الملتزم حديث المساء.
قرأت رؤى حُزناً أعمق من حُزنها في عيون عزة، إنــها شاردة على الدوام ، تبدووكأنها في حديث داخلي مـع نفســـها وكثيـراً ما كانت تُشغـل نفسهـا بترتيب شعـرهـا إذا مــا نظــر إليهــــا والدها، كما لو كان يتفقد شيئاً ما في عينيها، حـاولت مُلامسة زوايا قلبها الخاصة عبثـــــــاُ
دائماً بين الضــلوع ماهــو أقوى من الاختراق ، يبقى عصـيّ على الآخرين ملامســـته، تلك المسـاحات خاصـة بصاحبـها أو صاحبتها، يلجأ إليها بين الحين والآخر، يبوح لها، يفضفض
تـلك مكنونـات النفـس!لكنها ستحـاول، فضولها لـن يتركهـا تمضـي ليلتها هادئـة، عليهـا استدعـاء كافــــة وسائـل الدهـاء والذكاء، استدرجتهـا لغرفتهـا بعــد أن اطمـأنت إلى انشغـال أبيهـــا والعــم رجب بأحـاديث الذكريـات الذي على ما يبـــدو لن ينتهي، ربما سبب زيارتهمــا وقطــع هذه المسافة الطويلة من أجـل أن يسترجعـا ماضيهمـا الصبياني هكذا كانت تُحدث نفسها وهي تـهم بالجلوس لجانب عـزة، بالقرب مـن نافذتهـا المحببة لديها.
***
يتبـــــــــــــــــع