- استيقظ ... استيقظ ، يا أخي ، لا تخف ، ولكن لا أدري ما الذي اعترى أبي .....
كنت مستغرقاً في عالم الأموات وأنا أسمع صوت أختي المرتجف ، المشوب بالخوف ، وكأنه صادر من بئر عميق ، يخترق سمعي ، قفزت من فراشي كالملدوغ وكأنني في حلم ، كانت أختي تقف والقلق ينهش فكرها ، ترتجف مثل ورقة شجر في مهب الريح. برغم محاولتها الفاشلة إخفاء جزعها ، محاولة طمأنتي ، ولكن عيونها فضحتها.
طرت مسرعاً إلى غرفة نوم أبي ، كانت والدتي تقف متسمرة بجانب سريره وقد عقدت الدهشة لسانها ، والدموع تنهمر فوق وجنتيها ، والهلع يكسو ملامحها، من عادة والدي النوم بعد الظهيرة ، ثم يصحو على صوت المنبه ، ولكنه يومها لم يقوى على إسكاته ، وظل يرن إلى أن تنبهت والدتي . كانت عيون والدي تنظر إلى أعلى سقف الغرفة والزبد يخرج من فمه . في تلك الأثناء استيقظ أخي على صوت الجلبة ، وهرع مسرعاً وبدأ يتفحص والدي بحكم عمله كطبيب، كانت أقدامي بالكاد تحملني ، حاولت جاهداً أن أرفع والدي من جهة قدميه ، وأخي من جهة أكتافه ، ولكنه بدا ثقيلاً على غير عادته في ذلك اليوم.
عاد بي شريط الذاكرة إلى الوراء قليلاً ، يوم كنا أطفالاً نلهو ونعب من الحياة ولانعبأ بشئ ، كان يحملنا بذراعيه القوية المفتولة ، ويغمرنا بحنانه المتدفق مثل جدول رقراق ينساب داخل أرواحنا الصغيرة فيرويها ، سقى الله تلك الأيام ، ما أجملها ، ليتنا لم نكبر ، فتكبر همومنا ، لم نكن ندرك سر الكون ، وأن الأيام لا ترسو على حال. كانت والدتي تردد دائماً مقولتها الشهيرة
" الله يجيرنا من ساعة الغفلة " وكنت أتوجس خيفة من المجهول ، وما يخبئه القدر
انطلقنا بالسيارة إلى المستشفى ، لا نلوي على شئ ، أدخل والدي على عجل إلى غرفة العناية المركزة ، مرت عقارب الساعة بتثاقل وكأنها سنوات ضوئية .
- ما الذي أصاب والدي ؟ أجبني بصراحة
- جلطة دماغية ، أجاب أخي ، وبدأ يشرح لي الحالة من واقع خبرته ـ يومها قررت المبيت في المستشفى ، ورجع أخي إلى البيت ليطمئن والدتي وبقية أخوتي عاى أمل العودة في الصباح الباكر، بدأت الأفكار السوداوية تحاصرني ومجرد فكرة فقد والدي تزلزل كياني . جافاني النوم ولم يعرف طريقه إلى جفوني ليلتها من شدة القلق.
تسللت خيوط الشمس الأولى عبر نافذة الغرفة ، وبدأت تنشر أشعتها الذهبية فوق المدينة ، بعد مرور بعض الوقت ، دخل الممرض وهويدفع والدي ، كان يجلس فوق كرسي متحرك ، ارتميت عند أرجله وأنا أحاول أن أحبس دموعي ، كانت نظراته تخترق روحي وتنوب عن لسانه . كان ينظر إلي بحنان ، ولكنه فقد النطق ، حتى أن الشلل زحف إلى وجهه ، راسماً فوق ملامحه صورة تقطع نياط القلب .
( يتبع )
التوقيع
روحي تحلق بعيداً في الفضاء تخترق الاَفاق ، ترنو إلى أحبة حيث الشحرور والحسون يشدو على الخمائل أعذب الألحان . لما رأى الحمام لوعتي وصبابتي رق لحالي وناح على الأيك فهيج أحزاني وأشجاني . أتسكع في أروقة المدينة وأزقتها .. أبحث عن هوية ووطن ! ولا شئ غير الشجن . أليس من الحماقة أن نترك الذئاب ترتع فوق تخوم الوادي ؟