قيل في تقدير قوله { نور السماوات } وجهان ( احدهما ) ان يكون على حذف المضاف وتقديره ذو نور السماوات والارض على حد قوله { إنه عمل غير صالح}([2])
( الثاني) ان يكون مصدراً وضع موضع اسم الفاعل كقوله { إن اصبح ماؤكم غوراً }([3]) أي غائراً وكما قالت الخنساء:
تَرْتَعُ ما رتعتْ حتى اذا إدِّكرتْ
فانما هي إقبالُ وإدبارُ([4])
وعلى هذا تكون الإضافة غير حقيقية والسماوات بتقدير النصب فيها مصباح جملة في موضع الجر لأنها صفة لمشكاة ، المصباح في زجاجة جملة في موضع رفع لأنها صفة مصباح والعائد فيها اليه لام العهد تقديره فيها مصباح ذلك المصباح في زجاجة أو هو في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري: الجملة في موضع جر بأنها صفة زجاجة وقول زيتونة بدل من شجرة والباقي صفة.
نور خبر لمبتدأ محذوف أي هو نور على نور متعلق بمحذوف في موضع رفع لكونه صفة نور، في بيوت يتعلق بمحذوف وفي موضع جر لكونه صفة لمشكاة فانتقل الضمير من المحذوف اليه حيث سد مسده بغير حساب في موضع نصب بكونه صفة لمفعول محذوف وتقديره يرزق من يشاء بغير حساب أي غير محسوب.([5])
المعنى [6])
{ الله نور السماوات والارض } أختلف في معناه على وجوه
الاول: الله هادي اهل السماوات والارض الى ما فيه من مصالحهم عن ابن عباس.
الثاني: الله منور السماوات والارض بالشمس والقمر والنجوم ( عن الحسن وابي عاليه والضحاك )
الثالث: مزين السماوات بالملائكة ومزين الارض بالأنبياء والعلماء ( عن أبي بن كعب ) وانما ورد النور في صفة الله تعالى لأن كل نفع واحسان وإنعام منه وهذا كما يقال فلان رحمة وفلان عذاب إذا كثر فعل ذلك منه وعلى هذا قول الشاعر:
ألم تر أنا نور قوم وانما
يبين في الظلماء للناس نورها
وانما المعنى إنا نسعى فيما ينفعهم ومنا خبرهم وكذا قول ابي طالب في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة وفواضل
لم يعن بقوله ابيض بياض لونه وانما اراد كثرة افضاله واحسانه ونفعه والإهتداء به ولهذا المعنى سماه الله سراجاً منيرا { مثل نوره} فيه وجوه :الاول: ان المعنى مثل نور الله الذي هدى به المؤمنين وهو الإيمان في قلوبهم ( عن أبي بن كعب والضحاك ) وكان أبي يقرأ مثل من آمن به.
الثاني: مثل نوره الذي هو القرآن في القلب ( عن ابن عباس والحسن وزيد بن أسلم )
الثالث: انه عنى بالنور محمد صلى الله عليه وسلم وأضافه الى نفسه تشريفاً له ( عن كعب وسعيد وجبير ) فالمعنى مثل محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: ان نوره سبحانه هي الأدلة الدالة على توحيده وعدله والتي هي في الظهور والوضوح مثل النور ( عن ابي مسلم).
الخامس: ان النور هنا الطاعة أي مثل طاعة الله في قلب المؤمن ( عن ابن عباس ) في رواية اخرى { كمشكاة فيها مصباح } المشكاة هي الكوة في الحائط يوضع عليها زجاجة ثم يكون المصباح خلف تلك الزجاجة ويكون للكوة باب آخر يوضع المصباح فيه وقيل المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وهو مثل الكوة والمصباح السراج وقيل المشكاة القنديل والمصباح الفتيلة ( عن مجاهد )([7]).
تعريف المشكاة
هي القنديل والمصباح : أي الفتيلة الموقودة والمشكاة : الطاقة غير النافذة ، أي الأنبوبة في القنديل.([8])
والمشكاة على ما ذكره الراغب وغيره : كوة غير نافذة وهي ما يتخذ في جدار البيت من الكو لوضع بعض الأثاث كالمصباح وغيره عليه وهو غير الفانوس.
{{ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ..}}([9])
(اشرق بالنور، وتطلع إلى الأفق الوضيء، واستشرف النور الكبير في آفاق السماوات والأرض، وقلب المؤمن على استعداد لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق، وكله نور:
وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء، فيغمر الكون كله في فيض النور الباهر، وحتى تعانقه وترشفه العيون والبصائر، وحتى تنزاح الحجب، وتشف القلوب، وترف الأرواح، ويسبح كل شيء في الفيض الغامر، ويتطهر كل شيء في بحر النور، ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله، فإذا هو انطلاق ورفرفة، ولقاء ومعرفة، وامتزاج وألفة، وفرح وحبور، وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود، تتصل فيه السماوات بالأرض، والأحياء بالجماد، والبعيد بالقريب، وتلتقي فيه الشعاب والدروب، والطوايا والظواهر، والحواس والقلوب ..
النور الذي منه قوامها ومنه نظامها.. فهو الذي يهبها جوهر وجودها، ويودعها ناموسها..
ولقد استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفاً من هذه الحقيقة الكبرى، عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة - بعد تحطيم الذرة – إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور ! ولا (( مادة )) لها إلا النور !
فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإلكترونات تنطلق _ عند تحطيمها _ في هيئة إشعاع قوامه هو النور ! فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون.
كان يدركها كلما شف ورف وانطلق إلى آفاق النور، ولقد أدركها كاملة شاملة قلب المصطفى علية وعلى آله الصلاة والسلام ففاض بها وهو عائد من الطائف، نافض كفيه من الناس عائذ بوجه ربه يقول : (( أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة )) وفاض بها في رحلة الإسراء والمعراج.
فلما سألته عائشة: هل رأيت ربك ؟ قال : (( نور . أني أراه)) ([10]).
ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلاً على تلقي ذلك الفيض الغامر دائماً ، ولا يستشرف طويلاً ذلك الأفق البعيد ، فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي ، عاد يقارب مداه ، ويقربه الى الإدراك البشري المحدود ، في مثل قريب محسوس:{مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور..}
وهو مثل يقرب للإدراك المحدود صورة غير المحدود، ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس ، حين يقصر عن تملي الأصل.
وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير.
ومن عرض السماوات والأرض إلى المشكاة: وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة ، يوضع فيها المصباح ، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قوياً متألقاً : {((كمشكاة فيها مصباح)) } عن ابن مسعود قال: ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه.
وقوله تعالى { مثل نوره } في هذا الضمير قولان:(الأول) انه عائد الى الله عز وجل اي مثل هداه في قلب المؤمن قاله ابن عباس { كمشكاة }.
(والثاني) ان الضمير عائد الى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام تقديره مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة ، فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه كما قال تعالى {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه.}([11]) فشبه قلب المؤمن في صفاء نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف.
فقوله { كمشكاة } قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغير واحد : هو موضع الفتيلة من القنديل هذا هو المشهور ولهذا قال بعده { فيها مصباح } وهو الذبالة التي تضيء.([12])
[1] هود 17
[2]تفسير القرآن العظيم مجلد 3 ص297 للإمام الجليل الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي
[3] سورة الملك 30
[4] الشعر في جامع الشواهد
[5] مجمع البيان في تفسير القرآن ص188 للشيخ ابو علي الفضل بن الحسن الطبرسي
[6] مجمع البيان في تفسير القرآن ص188 للشيخ ابو علي الفضل بن الحسن الطبرسي
[7] مجمع البيان في تفسير القرآن ص188 للشيخ ابو علي الفضل بن الحسن الطبرسي
[8]مواهب الرحمن في تفسير القرآن وكذلك في تفسير الجلالين
[9] الآية 35 سورة النور
[10]في ظلال القرآن لسيد قطب
[11] هود 17
[12]تفسير القرآن العظيم مجلد 3 ص297 للإمام الجليل الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي
من كتابنا ( المشكاة والكواكب _ علاقات وأسرار )