هي من جعلتهُ بأسلوبِها المدهش وقوامها الرشيق الذي يختصر انحناء الكون ، يفكرُ في أن يواجهَ نفسهُ للمرةِ الأولى ، ويعترف بفشلهِ في نيلِ حريتهِ على مدى أعوامهِ الخمس والثلاثون ، وللمرة الأولى أيضا رأى بأنه لم يكتشف شيء مهم في بحثهِ المتواصل عن حقيقةِ الإنسان .
حاول أن يخفي اهتمامَهَُ بها أمام طلبتهِ الذين تعودوا منهُ حبهِ لأبحاثه ونظرياته الغريبة التي جمعت الكون في قشرة جوز ، ولكنهم كانوا على قدرٍ من الذكاء ، ليعرفوا إن أنوثتها المعلنة هي السبب في هذا التغير، هذا ما كان يدور بخلدهِ بعد أن بدأت هي تؤثر شيئاً فشيئاً على سلوكهِ اليومي .
كان يجيبُ على ما يراه في عيونِهم من أسئلةٍ مبطنةٍ من خلال محاضراتهِ اليومية :
ـ أنها مسألة بايولوجية بحتة ، هي تحدث عادة عند الاقتراب من سن الأربعين عندما تبدأ خلايا الجسم لا إرادياً بالدفاع عن وجودها ضمن دائرة الشباب ، ذاتنا العميقة ترفض وتراوغ بمهارة لكي لا تقترب من العدّ التنازلي للعمر .
في أحد الأيام ، أعد لهم مخططات ومصورات وشرح من خلالها دورة الزمن على الإنسان ، وكنوع من التبرير أخبرهم بأنه هو نفسه يمر بما يسمى بالمراهقة المتأخرة ، وهي حالة من التوازن الكوني في حياة الإنسان عندما يقترب من منتصف العمر بجسده فان روحَهُ تبتعد بالإتجاه المعاكس لذلك يحاول التصرف لا شعورياً بروح العشرينات .
ولكنه كان يعرف بأنهم لم يستلموا رسائله المبطنة بشكل فاعل ، فعيونهم كانت تصرخ بوجهه : أعترف يا أستاذ أنوثتها هي السبب .
كان على منصة الدرس يتهرب ببراعة من تلك الأسئلة الصامتة ، يقف كثيراً موجهاً عينيهِ إلى سقف القاعة لأنه يعرف أن العين هي بؤرة الطاقة المفضوحة ، ثم يحرك يديه بشكل محترف ليبدو كنجم سينمائي مشهور ، هو تصرف يشتت تركيزهم ويسهل عليه أعادة برمجتهم ولو لثوان ، وأحياناً كان يجلسُ على طرف المنضدة ليبتسم ابتسامةً ضاحكةً وهو يوجه لهم أسئلة فوق مستوى وعيهِم . كل هذا ليجعلهم يعتقدون أن التحولات الأخيرة على شكلهِ وملبسهِ هي من ضمن المخطط العام للتطور النفسي الطبيعي عند الإنسان . ولكي يراوغ أكثر فأنه يطرق على مسامعهم ما يحاكي شكوكهم ؛ فأفضل مكان تـُخفي فيه الأشياء هو أن تضعها أمام مرأى الجميع !! .
عندما ينظر إليها وهي تجلس في مؤخرة قاعة الدرس ، كان يشعر بأنهما خارج الزمن ، أو انه يقف على سطح كوكب خفي في طرف المجرة وأمامه بوابه واسعة للاندماج بالكون ، بينما هي تجدل شعرها تحت شجرة من زجاج ، وتنظر أليه وهو يرف حولها كهمسة خافتة ،
لذلك كان يقول لهم ، إنكم عندما تكبرون قليلاً ستكتشفون أنّ الإنسانَ كائنٌ لا محدود ، إذا وإذا فقط ، حصل على حريتهِ ، والحريةُ هي في أن يواجه مخاوفهُ وينتصرُ عليها .
كان يضعُ عينيهِ في عينيها وكأنّهُ يقصدها وهو يعلن رأيهُ بالأنثى الذي سيقولهُ علناً في كتابهِ الجديد :
(المرأة أكثر تكاملاً من الرجل ، أتعرفون لماذا ؟ لأنها مصممة أساساً لوجودٍ مؤقتٍ ومرنٍ في المكان ، لأن وجودها الحقيقي هو وجود زمني ، لذلك هي أكثر خفة وحركة من الرجل ، وتعيش بمشاعرها وقلبها أكثر من فكِرِها وعقلهَا ، ولأنها تهب الحياةَ من خلال الولادةِ لذلك هي لا تخشى الموت مثل الرجل ، ولذا تميل المرأةُ للتبرجِ لتعلن للعالم بأنها موجودة ، وتقوم بشكل عفوي برسم عينيها لتبدوان بشكل أكبر لأنها بحاجة لإحتلال مساحات أكبر على الأرض ، هي معركة وجود لا أكثر ولا أقل )
انتهت المحاضرة وتأخرت هي بشكل مفتعل ، ثم تقدمت نحوهُ بخفتها ورشاقتها المعتادة ، نظر إليها فشعر إن أوراقاً قديمة تسقط وأخرى جديدة تنمو على شجرة حياتهِ القادمة ، وتخيل القاعة تكبر وتنفجر في الفضاء فلا يبقى سواهما متقابلينِ على طريق من نور تحفهُ عصافير ملائكية بيضاء وزهور عجائبية من كتابِ ألف ليلة وليلة ، قالت لهُ برنةِ صوتها الناعم :
ـ أستاذ ، تعرف جيداً ، كم أنا معجبة بك ، أنت مصدر سعادة كبيرة لي ، وشخصيتي بأكملها بنيتها على ضوء مفاهيمك وأفكارك ، أنت أقرب شخص لي في الوجود ، ولم أتعلق بأحد مثلما تعلقي بك ، لذلك فإنني حرصت بأن تكون أولَ من أدعوهُ لحفلةِ زواجي في الأسبوع القادم ؟