كم من الوقت مر عليها ؟ أبد سرمدي ام هي طرفة عين ؟ وهي والحشية الزلقة كيانان متلاصقان على مضض ، السحب البيضاء تغلف رأسها تحيله كرة باردة سابتة ، واصوات تأتي من بعيد لاشباح طباشيرية ودت سؤالهم الصمت لكن لسانها خذلها.. استحال مضغة غروية التصقت كحلزون في سقف فمها .
عقلها مشلول عن كل شيء عدا احساس بأجواء تحمل في اعطافها اشمام نذر مضببة بهيبة الموت .. لو انهم يكفون عن هذرهم فأصواتهم تستحيل اصداء تردد ضجيجا في قحف الرأس ، كما ان الكلام لم يعد شغلها الشاغل.. ما يهمها الآن هو زلات اللسان ، الزلات التي تكشف عما تخفيه الصدور .. تلك الصناديق المغلقة على اكثر المشاعر غرابة وقسوة .
ولكن أ ليست مفارقة ان تعيش الحياة مكابدة للموت وتعاني سكراته انتظارا للحياة !
- اريد قطرة ماء.. نادت في صحراء وحدتها .. لا تدري ان سمعها احد ، فيما تراءى لها عن بعد نسر مخيف فرش جناحيه الرماديتين ليخفي بهما شمسا حزينة باهتة .
الظمأ جمرة تتآكل الروح تخبو لتتقد بأشد من ذي قبل ، كحريق يلتهم جدرانها مخلفا هياكل فحمية منخورة آيلة للسقوط .
صوت الألم وحده وشى بأنها مازلت على قيد الحياة ، الحياة الضاجة من حولها فيما تكفنها الوحدة وحدها لتجد نفسها محشورة داخل زنزانة جسد مستسلم لأحساس غامر .. بالموت .
كانت في خضم محاولاتها لاستجلاء غموض العتمة بعقل شبه معطوب يداهن ارادة تحاكي صاعقة تبدد وميضها وسط ليل صحراء ادهم ، عندما سيطر عليها احساس غامض تمنت لو تبتعد الى اي مكان غير هذا لتموت فيه همت بالبكاء لكنها غصت بغيظها كأن الالم والظمأ والضياع ليست كفاية ليسكنها الاستسلام هذه المرة .
قالت لنفسها :
- أتعلمين ما مشكلتك ؟ مشكلتك انك تشعرين بأكثر مما يحتمله شخص واحد .. ها انت بمفردك تكابدين بدل اثنين و ...
المرئيات تنجلي رويدا عن شباك مضبب يهتز لدوي الانفجارات .. الاجسام الشبحية تقترب ترمقها بحذر .. تناهى اليها صوت مألوف لأمرأة تسأل :
- من اخذ الحقيبة .. لقد سلمتها بيدي ؟
- أملت نفسها في شبه حلم انه اذا قدر لها الخروج من ذلك المكان فستهيم وسط الحقول الموشاة بأزهار الخوخ المفعمة برائحة العشب الاخضر .. هناك ستجري كفرس برية ، وتمد يدها بعيدا لتلامس بها جدائل الشمس .... فجأة صمت كل شيء.. الهذر ، هدير القنابل، لكن النسر عاد ثانية للانقضاض ليمزق بمخالبه احشاءها هذه المرة ، الالم كان رهيبا لدرجة انها سمعت صوت انينها ، حركت يدها باتجاه مصدر الالم كأن يدا امسكت بها لتمنعها .. اليد استحالت ايادي كثيرة رفعتها لتلقي بها في فراغ اثيري و تثير غثيانا كان راكدا .
ومثل اسير معصوب العينين وجدت نفسها تتلمس قضبانا باردة لتتكور في وضع جنيني فرضته عليها لزوجة ثيابها المنقوعة بروائح لاذعة فتساءلت في سرها :
- لماذا لانحتمل مرآى الدم ولا رائحته بالرغم من اننا نحمله في عروقنا دليل حياة ؟
الحياة .. آه لقد ذاقت طعمها الدافق مرة في غفلة من الزمان .. كان هو الباديء ، والباديء دائما اجرأ واجمل حين اعلن عليها حبه المجنون .
تبدت لها الحياة حينها كنهر ربيعي يصب في بحره ، كان كل شيء يتخذ بديهة ومعنى يتمحور حوله ليعكس الاشياء التي تشع الفة والتي شكل واياها ببراعة كلا واحدا .
كانت قد احتوت بذرته كأرض معافاة .. اما هو فلاذ بسفر طويل قبل ان ينفث في وجهها كلماته الاخيرة :
- لم اعد احتمل .. سأعود .. انتظريني .
انتظرته وكان صوت الأمل يخبو رويدا في صدرها مع تباعد رسائله حتى لم يتبق لها منه سوى ذكرى باهتة تطفو كزيت على سطح الذاكرة المتموج . نقطة حياة صغيرة هي التي وهبتنها الحياة حينها ، والتي كانت قد بدأت تفقدها وتراها تتسرب من بين اصابعها كخيوط ماء .. كانت تكابد اللامعنى الذي يوقظ خبايا النفس او يقتلها ، التجربة العالية التي تسمو فوق كل الكلمات .. اجل تلك المضغة صارت فنارها وطوق نجاتها في ايام الصبر المضمخة برائحة القهوة المرة ، بهجير صيفها ووحشة امطارها .. وهو بعيد هناك ممتطيا صهوة احلامه الجامحة لاهثا خلف نجمه الوهمي .. أ تراها خطرت بباله وهو يجالس من يجالس في احضان الغربة ؟ هل ارق طيفها ضميره يوما في صحوة مفاجئة ؟ صوت غريب يطرق سمعها :
- اطمئنوا هي بخير الان .. الصوت ذاته يقترب اكثر ليهمس في اذنها :
- مبروك صرت أما .
كم انتظرت لتتذوق ذلك الصمت المحايد المريح ، كأنها تعيش لحظة محتدمة ترقبها بعيني طفل انتشى لرؤية القمر .. ومع انسراحات الذاكرة تمتزج لديها مشاعر شتى تحاول مداهنتها مراوغة بعضها بعضا تتناوشها برفق لتجد نفسها أرضا خصبة لتجارب اصواتها دفق حياة تدفعها تارة لأمتطاء مهرة جسور لتعبر بها كل الحواجز .. ثم تتلاشى حماستها فجأة كأنما لم يعد يعنيها من أمر هذا العالم شيء .
- أنى لها ان تجد بداية صادقة وحياتها كلها نهايات لبدايات غير مؤكدة ؟ في تلك الايام كانت تحاول عبثا الانفلات من فلك استعبدها اسمه حياتها لتنتهي في ذات النقطة كل مرة منهوكة القوى مستنزفة الارادة .
لم تكن مشكلتها التأقلم مع الحياة او مع اي وضع جديد فرضته عليها .. القضية كانت في قدرتها على ان تولد مرة اخرى .. ان تجازف لأختراع قدرها ، ان تخوض في بركة دمائها لتغادر معركتها متجردة من كل سذاجاتها واوهامها السابقة لتخرج من شرنقتها انسانة جديدة تجلها تعيد واياها اكتشاف وترتيب الاشياء .
ان اخطاءها رغم كل شيء لم تكن بلا جدوى ، كشفت لها نقاط الضعف داخل وخارج اسوارها .. تلك النقاط التي كانت تترصدها الأعين اللزجة متحينة الفرص الخائبة للانقضاض .
هي تعلم ان الانسانة الجديدة داخها ليست كاملة ، لكنها تدرك اننا ما خلقنا لنعيش الكمال بل لنكتشف ذواتنا والعالم الضاج بالأسرار من حولنا .. لنجرب خوض المستحيل والممكن في آن ، لنكون انفسنا ، لنتجرد من زيفنا بلا خجل من جنوننا المتواضع مقارنة بالجنون المطبق المحيط بنا .
ان الذي يسكنها اليوم هو عالم جديد يتشكل يولد يزدهر فلا يحق لها ان تدعه يموت .
اقبلت عليها فتاة باسمة العينين تحمل جسما صغيرا لدنا وسدته ذراعها وهمست :
- انظري كم هو جميل .
احتضنته كمن يحتضن جزء منه عاد اليه كانت تمسح بعينيها تقاطيع ذلك القمر الذي سقط عنوة في حجرها، حين تناها اليها صوت الفتاة ثانية وهي تقول في شبه اعتذار :
- لقد فقدت حقيبة ثيابه وظل المسكين يرتجف من البرد حتى اتيناه بهذه ..
كم تعبت في اعداد تلك الثياب ، لم يثننها الظلام ولا حتى هدير القنابل عن حياكتها له بيديها .. رنت اليه بحب تكتشفه لأول مرة وهمست له : - لن يسرقوا حلمنا .. اسمع يا حبيبي حين تكبر قليلا سآخذك حيث الحقول الموشاة بأزهار الخوخ المفروشة بالعشب الندي الأخضر ، وهناك على امتداد البصر سنجري كخيول برية ونمد ايدينا بعيدا بعيدا لنلامس بها جدائل الشمس